Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 35, Ayat: 18-18)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

معنى { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ } [ فاطر : 18 ] لا تحمل نفس آثمة { وِزْرَ أُخْرَىٰ } [ فاطر : 18 ] حِمْل نفس أخرى لأنها هي الأخرى مُثْقَلة بحِمْلها ، والوزر هو الحِمْل الثقيل الذي لا يطيقه الظهر ، ومنه قوله تعالى في مسألة الوحي : { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ } [ الشرح : 2 - 3 ] يعني : أتعبك نتيجة التقاء الملائكية بالبشرية . لذلك " كان صلى الله عليه وسلم يتفصَّد جبينه عرقاً من لقاء جبريل ، وهو الذي قال مُصوِّراً هذا اللقاء : " ضمَّني حتى بلغ مني الجهد " وعاد إلى أهله يقول : زملوني زملوني ، دثروني دثروني " ومع هذا كله لما فتر الوحي اشتاق إليه وتمناه أنْ يجيء ، لأنه ذاق حلاوته ، وحلاوة الشيء تُنسيك ما تلاقيه من المتاعب في سبيله . والمعنى : لا تحمل وزر وذنب نفس أخرى مُثْقَلة بالذنوب والآثام ، وقد شرح الحق لنا هذا المعنى فى قوله سبحانه : { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 34 - 37 ] فكلٌّ مشغول بنفسه ، مُرْتهَنٌ بعمله ، لا وقت للمجاملة لذلك يقول الوالد لولده : يا بني حِمْلي ثقيل عليَّ ، فخُذْ عني شيئاً منه . فيقول الولد : حسبي حِمْلي يا أبي . كذلك هنا { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا } [ فاطر : 18 ] أي : نفسي مُثْقَلة بالآثام تطلب مَنْ يحمل عنها شيئاً من ذنوبها ولكن هيهات { لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ } [ فاطر : 18 ] أي : لو كان هذا النداء لأقرب الناس إليها ما أجاب وما حمل عنها ، وكيف تحمل نفسٌ وِزْر نفس أخرى ، وهي مشغولة بحِمْلها مثقلة به ؟ لذلك يُكذِّب الحق سبحانه قَوْل الذين كفروا حين يتعرَّضون لحمل خطايا أتباعهم ، فيقول سبحانه : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ العنكبوت : 12 - 13 ] . إذن : هذه مسألة واضحة ، فكلٌّ مشغول بنفسه { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [ المدثر : 38 ] . فالإنسان في الدنيا مرتبط إما بقرابة لها حقوق عليه ، وإما بإخوان وأصدقاء ، وإما بمنقذ يستنجد به ، وإنْ لم يكن قريباً ولا صديقاً ، لكن يوم القيامة ستنحلُّ كل هذه العُرَى لأن الموقف لا يحتمل المجاملات ولا التضحيات . لذلك لما سمعتْ السيدة عائشة رضي الله عنها سيدنا رسول الله وهو يُحدِّثهم عن القيامة ، ويذكر أن الشمس تدنو من الرؤوس والخَلْق يقفون عرايا ، استاءتْ وسألت رسول الله : كيف يقف الناس عرايا ينظر بعضهم إلى عورة بعض ؟ فأجابها رسول الله أن كل امرئ مشغول بنفسه ، وأن الأمر أعظم من أنْ ينظر أحد لعورة أحد في هذا الموقف . ثم يقول سبحانه مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم : { إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَيْبِ } [ فاطر : 18 ] يعني : إنذارك يا محمد وتحذيرك لا ينفع إلا الذين يخشون ربهم بالغيب ، أما الآخرون فقد ظلموا أنفسهم حين حرموها الخير الكثير الذي أراده الله لهم ، ظلموها حين غرَّتهم الدنيا بنعيمها الفاني ، وشغلتهم عن نعيم الآخرة الباقي الدائم . والإنذار : التخويف من شَرٍّ قبل أوانه لتتوقَّاه ، والفرصة سانحة قبل أنْ يداهمك ، فأنت مثلاً حين تريد أن تحثَّ ولدك على المذاكرة وتحذره من الإهمال الذي يؤدي إلى الفشل لا تقول له هذا ليلة الامتحان ، إنما قبله بوقت كافٍ ليتدارك أمره ، ويصحح ما عنده من قصور أو إهمال . والإنذار والتخويف لا يُجدي إلا مع مَنْ يؤمن بما تخوِّفه به ، فحين ينذر رسول الله بعذاب الآخرة لا ينتفع بهذا الإنذار إلا مَنْ يؤمن بالله ويؤمن بالقيامة . ومعنى { يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } [ فاطر : 18 ] الخشية هي الخوف ، لكن بحب وتوقير ، لا خوف بكراهية ، فأنت تخاف مثلاً من بطش جبار ظالم . لكن تخافه وأنت كاره له ، إنما خَوْفك من الله خَوْف ناتج عن حب وتوقير ، لذلك يصحب هذا الخوف رجاء وطمع في رحمته تعالى ، فأنت تسير في رحلة حياتك بجناحين : خوف من العذاب ، ورجاء في الرحمة . والإنسان ينبغي ألاَّ ينظر إلى الفعل في ذاته ، بل ينظر إلى الفعل وإلى قابل ، فقد يكون الفعل واحداً لكن يختلف مستقبل الفعل ، فالقرآن مثلاً سمعه قوم عند رسول الله ، فحكى الله عنهم : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً … } [ محمد : 16 ] . في حين سمعه آخر فقال : والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو ولا يُعْلَى عليه . وسمعه عمر فَلاَنَ قلبه ورَقَّ فأسلم ، فالقرآن واحد ، لكن فَرْق بين مَنْ يسمعه وهو له كاره ، فيغلق عليه وبين مَنْ يستقبله بقلب وَاعٍ مفتوح لإشراقات القرآن وتجلياته . ألاَ ترى أن الحديد يستجيب لك حين تطرقه وهو ساخن ، فيصير كالعجينة في يدك ، أما إنْ طرقْته وهو بارد فإنه لا يتفاعل معك ، كذلك قلنا مثلاً : إنك في اليوم البارد تنفخ في يدك لتشعر بالدفء ، وتنفخ أيضاً في كوب الشاي مثلاً لتبرده ، فكيف تجتمع هذه المتضادات لفعل واحد ؟ نقول : لأن الفاعل وإنْ كان واحداً إلا أن المستقبل للفعل مختلف . كذلك إنذاره صلى الله عليه وسلم إنذار واحد ، لكن استقبله قوم بخضوع ورغبة في الهداية فآمنوا ، واستقبله قوم بعناد وإصرار فلم يستفيدوا منه ولم ينتفعوا بثمرته . وقوله { ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَيْبِ } [ فاطر : 18 ] دلتْ على أن الإيمان اكتمل في نفوس هؤلاء اكتمالاً يستوي فيه مشهد الحكم بغيبه . ومن ذلك قول الإمام على رضي الله عنه : لو انكشف عني الحجاب ما ازددتُ يقيناً . " ولما سأل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر : " كيف أصبحتَ يا أبا ذر ؟ " قال : أصبحت مؤمناً حقاً ، قال : " فإن لكل حق حقيقة ، فما حقيقة إيمانك ؟ " قال : عزفَتْ نفسي عن الدنيا ، حتى استوى عندي ذهبها ومدرها ، وكأنِّي أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يُنعَّمون ، وإلى أهل النار في النار يُعذَّبون ، فقال له رسول الله : " عرفتَ فالزم " " . ثم يذكر الحق سبحانه صفة أخرى للذين استجابوا لإنذار رسول الله وانتفعوا به : { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ } [ فاطر : 18 ] فهم مع خشيتهم لله خشية أوصلتهم إلى إيمان يستوي فيه الغيب بالمشاهدة ، هم أيضاً يقيمون الصلاة أي : يؤدونها على أكمل وجه ، والصلاة كما ذكرنا هي العبادة الوحيدة التي لا تسقط عن المكلَّف بِحال ، فقد يطرأ عليك ما يُسقِط الزكاة أو ما يُسقط الصيام أو الحج فلم تَبْقَ إلا شهادة ألاَّ إله إلا الله محمد رسول الله . وهذه يكفي أنْ تقولها ولو مرة واحدة . أما الصلاة فهي العبادة الوحيدة الملازمة للمسلم لأن الصلاة في حقيقتها استدامة الولاء لله تعالى ، فَرَبُّك يدعوك إلى لقائه خمس مرات في اليوم والليلة يناديك لتعرض الصنعة على صانعها ، وما بالك بصنعة تُعرض على صانعها خمس مرات في اليوم والليلة ؟ أيكون بها عَطَب بعد ذلك ؟ أما إذا أردتَ مقابلة عظيم من عظماء الدنيا فَدُونه أبواب وحُرَّاس ومواعيد وإجراءات صارمة ، ولا تملك أنت من عناصر هذا اللقاء شيئاً ، بل يحدد لك الموعد والموضوع وحتى ما تقوله ، إنك تستأذن في أوله ولا تملك الانصراف في آخره . أما لقاؤك بربك فخلاف ذلك ، ففي يدك أنت كل عناصر اللقاء ، فأنت تبدؤه متى تحب ، وتنهيه كما تحب ، وتناجي ربك فيه بما تريد ، تبثُّه شكواك ، وتعرض عليه حاجتك ، فيسمع ويجيب . وبعد أنْ ذكر الحق سبحانه هذه العبارة الدائمة يقرر هذه الحقيقة { وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ } [ فاطر : 18 ] يعني : عبادتك عائدة إليك أنت لا ينتفع الله تعالى منها بشيء ، فهو سبحانه لا تنفعه طاعة الطائعين ، ولا تضره معصية العاصين . فهو سبحانه غني عَنَّا ، ونحن بعبادتنا لله لم نزده سبحانه صفة كمال لم تكن له لأنه بصفة الكمال أوجدنا وبصفة الكمال كلَّفنا . لذلك جاء في الحديث القدسي : " يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسَكم وجِنَّكم ، وشاهدكم وغائبكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ، ما زاد ذلك في مُلكي شيئاً ، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجِنَّكم وشاهدكم وغائبكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من مُلكي شيئاً ، ذلك أنِّي جَوَاد ماجد واجد ، عطائي كلام ، وعذابي كلام ، إنما أمري لشيء إذا أردته أنْ أقول له كن فيكون " . إذن : نحن صَنْعة الله ، وما رأينا صانعاً يعمد إلى صَنْعته فيحطمها أو يعيبها ، إنما يصلحها ويُهذِّبها ويعتني بها ، حتى إنْ أصابك عطب أو إيلام فاعلم أنه في النهاية لصالحك . { وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ } [ فاطر : 18 ] يعني : المرجع والمنقلب يوم القيامة ليفصل بين الخصوم ، ولينال كل ما يستحق ، فمَنْ أفلت من العقاب في الدنيا فهناك مصير سيرجع إليه . ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ } .