Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 35, Ayat: 1-1)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

تعرَّضنا للسور التي بُدئت بالحمد لله ، وهي : الأنعام ، والكهف ، وسبأ . وهنا في فاطر ، والحمد في كل منها له معنى وله مناسبة لأن الإنسان احتاج إلى إيجاد من عدم ، ثم وسائل إبقاء في الحياة الدنيا ، ثم احتاج إلى إيجاد بعد البعث ، وأيضاً وسائل إبقاء في الآخرة . فسورة الكهف تعرضت لحمد الله على المنهج { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ … } [ الكهف : 1 ] لأن المنهج هو وسيلة الاستبقاء للإنسان ، فلولا أن المنهج يُبيِّن للناس الحق والباطل لتفاني الخَلْق ، وما استقامتْ لهم الحياة ، أما سورة سبأ فتعرضت لحمد الله على نعمه في الدنيا وفي الآخرة . وهنا في فاطر : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً } [ فاطر : 1 ] فذكرتْ الحمد على وسائل الإبقاء كلها ، المادي منها المتمثل في مُقوِّمات الحياة المادية ، والمعنوي منها المتمثل في منهج الله . والحمد على إطلاقه لله تعالى ، حتى إنْ توجه للبشر ، فمردُّه إلى الله ، لأنك حين تحمد البشر تحمده على شيء قدَّمه لك ، هذا الشيء ليس مِنْ مِلْكه في الحقيقة ، ولا من ذاته ، إنما هو من فيض الله عليه ، فهو مناول عن الله ، وإنْ قدّم لك عملاً فإنما يقدِّمه بالطاقة التي خلقها الله فيه ، وبالجوارح التي انفعلتْ بخَلْق الله فيه ، إذن : فالحمد بكل صيغة راجع إلى الله تعالى . ثم يأتي بحيثية من حيثيات حَمْد الله ، فيقول : { فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ فاطر : 1 ] ومعنى فاطر السماوات والأرض : خلقها ومُبدعها على غير مثال سابق يُحتذى به ، وهذه مسألة تستحق الحمد لأن الله تعالى كرَّم الإنسان الخليفة في الأرض ، فسَوَّدهُ على سائر الأجناس وكرَّمه بالعقل الذي يختار بين البدائل . وبعد ذلك بيَّن سبحانه إنْ كان خَلْق الإنسان مُعْجزاً ، وإن كان هو السيد المخدوم من جميع الأجناس ، فإنَّ خَلْق السماوات والأرض أكبر من خَلْق الناس وأعظم لذلك لما تكلم سبحانه عن حمد الله ذكر أكبر المخلوقات وأعظمها ، وهي السماوات والأرض . والسماء هي كل ما علاك ، لذلك تُطلق على السحاب ، فهو السماء التي ينزل منها المطر ، كما قال سبحانه { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } [ القمر : 11 ] وليست هذه هي السماء المقابلة للأرض . والله تعالى يقول في خلق السماوات السبع : { ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً } [ الملك : 3 ] يعني : ليس بها فتوق أو شقوق ، فكيف إذن تنزل الملائكة ومسكنهم السماء ، كيف ينزلون إلى الأرض ؟ قال الحق سبحانه وتعالى : { تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ } [ القدر : 4 ] . الحق سبحانه يُقرِّب لنا وظيفة الملائكة ، وأنها خاصة بالسماء صعوداً وهبوطاً ، فقال في آية فاطر { جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ } [ فاطر : 1 ] فعملهم إذن في السماء ، لكن كيف يَنْفُذون من السماء ، وليس بها فتوق ولا شقوق ، قالوا : ينفذون لأن طبيعتهم الملائكية الشفافة تسمح لهم بذلك ، فالإنسان مثلاً خُلِق من طين ، والطين له جِرْم ومادة لا تمكنه أنْ ينفذ من شيء . أما الجن فقد خلقه الله من النار ، وللنار أيضاً جِرْم ومادة ، لكن ألطف وأشفّ من الطين لذلك ينفذ الجن من الأشياء المادية ، بدليل أنك لو جعلتَ مثلاً تفاحة خلف جدار ، فإنك لا ترى شكلها ، ولا تحسُّ طعمها ولا رائحتها ، لكن لو أوقدتَ ناراً خلف هذا الجدار فإنك بعد قليل تُحِسُّ بحرارتها في الجهة الأخرى ، وهكذا ينفذ الجن كما تنفذ الحرارة . أما الملائكة فهي أرْقى الأجناس وأعلاها ، خلقها الله من نور ، وهو ألطف وأشفّ من الطين ومن النار لذلك لا يحتاج النور إلى منافذ ، أرأيتم مثلاً الأشعة التي تخترق الجسم وتعطينا صورة كاملة لما بداخله كالقلب أو غيره هكذا الملائكة تنفذ لا يحجزها شيء . وقوله سبحانه { جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً } [ فاطر : 1 ] الملائكة جنس من المخلوقات ، قال الله عنهم : { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 26 - 27 ] والملائكة أقسام : فمنهم العَالُون ، وهم المهيَّمون في الله ، ولا عملَ لهم إلا عبادته سبحانه ، وهؤلاء لا يدرُونَ شيئاً عن هذا الكون ، ولا صلةَ لهم به لذلك لما أَبَى إبليس أنْ يسجد لآدم كما أمره الله ، قال الله له : { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ } [ ص : 75 ] . ومن الملائكة قسْم له علاقة بالإنسان ، وهؤلاء هم الذين أُمِروا بالسجود لآدم ، وكأن الله تعالى يقول لهم : هذا المخلوق هو الذي ستكونون في خدمته ، ومنهم : المعقبات ، كما قال سبحانه : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } [ الرعد : 11 ] يعني : يحفظونه حِفْظاً صادراً من أمر الله ، وإلا فالملائكة لا تمنع عن الإنسان أمراً قضاه الله عليه . إذن : حِفظهم لنا حِفْظ من باطن حِفْظ الله لنا لذلك يقولون مثلاً العين عليها حارس ، ونرى مثلاً من يسقط من الطابق الثالث أو الرابع ، ولا يصيبه مكروه لأن الله سبَّب له أسباب النجاة ، وحفظته الحفظة . ومن هؤلاء المدبرات أمراً ، الذين قال الله عنهم : { فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً } [ النازعات : 5 ] وهم الذين يُدبِّرون أمور الخَلْق بأمر الله ، ومنهم الكتبة الذين يكتبون الأعمال : { كِرَاماً كَاتِبِينَ } [ الانفطار : 11 ] . هؤلاء الملائكة جعلهم الله { رُسُلاً } [ فاطر : 1 ] إما إلى الرسل من البشر يحملون إليهم منهج الله ، وإما رسلاً منه سبحانه لمهامهم التي تتعلق بهذا الكائن الإنساني . ثم وصفهم فقال : { أُوْلِيۤ } [ فاطر : 1 ] أصحاب { أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [ فاطر : 1 ] وهذا الوصف دلَّ على صلة الملائكة بالجو والسماء ، ومهمة الصعود والهبوط ، وهذه الأجنحة ليس لها نظام ثابت ، بل منهم مَنْ له مثنى ، ومَنْ له ثلاث ، ومَنْ له رُبَاع ، بل ويزيد الله في ذلك ما يشاء { يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } [ فاطر : 1 ] . وكأن الخالق سبحانه يقول لنا : إنْ كنتم لم تروْا إلا جناحين للطائر ، فلا تتعجبوا ولا تنكروا أنْ يكون للملَك أكثر من ذلك لأنه خَلْق الله الذي يزيد في الخَلْق ما يشاء ، والذي له سبحانه طلاقة القدرة ، فخَلْق الله ليس عملية ميكانيكية أو قوالب تُصَبُّ على شكل واحد ، وخَلْق الله ليس مخبزاً آلياً يُخرِج لك الأرغفة متساوية . وتتجلى طلاقة القدرة في الخلق منذ خَلْق الإنسان الأول آدم عليه السلام ، فإنْ كانت مسألة التناسل تقوم على وجود ذكر وأنثى ، ومن هذه جاءت جمهرة الناس ، فطلاقة القدرة تخرق هذه القاعدة في كل مراحل القسمة العقلية لها ، فالله خلق آدم عليه السلام من لا أب ولا أم ، وخلق حواء من أب بلا أم ، وخلق عيسى عليه السلام من أم بلا أب . فما دام أن الذي يزيد في الخَلْق هو الله ، فلا تتعجب ولا تُكذِّب حين تسمع الحديث النبوي ، قال صلى الله عليه وسلم : " رأيتُ جبريل وله ستمائة جناح " صَدِّق لأنك لستَ مسئولاً عن الكيفية ، إنما عليك أنْ تُوثق الكلام : صدر من الله أو لم يصدر ، صَحَّ عن رسول الله أو لم يصح ، كُنْ كالصِّدِّيق لمَّا حدثوه عن الإسراء والمعراج وقالوا : إن صاحبك يقول كذا وكذا ، فقال الصِّديق : " إنْ كان قال فقد صدق " . لذلك ، فالذين يبحثون في عِلَل الأحكام عليهم أنْ يَدَعُوا البحث فيها ، ويكفي أنْ يُوثِّقوا مصدرها ، فإنْ كانت من الله فعلىَّ أن أفعل لمجرد أن الله أمرني بذلك ، فَعِلَّة الحكم أن الله أمر به ، فهمتُ حكمته أو لم أفهم . ونرى بعض العلماء يحرصون على استنباط الحكم من كل عبادة من العبادات ، فيقولون مثلاً ، شرع اللهُ الصومَ ليدرك الغنيُّ ألمَ الجوع ، فيعطف على الفقير ، وهذا يعني أن الفقير لا يصوم ، فالأقرب أنْ تقول : أصوم لأن الله أمرني بالصوم . فأنت مثلاً لا تسأل الطبيب لماذا كتب لك دواء كذا وكذا ، بل تترك له هذه المهمة ، وما عليك إلا أنْ تتناول الدواء ، ولا يسأل الطبيب ، ولا يناقشه في هذه المسألة إلا طبيب مثله ، لكن هل هناك مُسَاوٍ لله فيسأله : لماذا فُرِض علينا كذا أو كذا ؟ فقوله سبحانه { يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } [ فاطر : 1 ] دليل على طلاقة القدرة التي لا يعجزها شيء ، ومن طلاقة القدرة أنْ ترى الطويل والقصير ، ولا تكاد تُفرِّق بين قامات الناس وهم جلوس لأن منطقة الصدر والبطن متقاربة الطول ، إنما تُفرِّق بينهم حال الوقوف لأن معظم الطول في السيقان والأوراك لذلك تنظر إلى رجلين وهما جالسان ترى طولهما واحداً ، فإنْ قاما ظهر الفارق ، وهذا يسمونه الحبتر . من طلاقة القدرة اختلاف الخَلْق في الشكل ، وفي اللون ، وفي الطباع ، وفي الذكاء لذلك من وقت لآخر نرى طفلاً برأسين ، أو بيد فيها ستة أصابع ، أو دابة بخمسة أرجل ، من طلاقة القدرة أن ترى هذا وسيماً معتدل الصورة ، متناسق الأعضاء ، كهؤلاء الذين تنطبق عليهم شروط القبول مثلاً في الكليات العسكرية أو البوليس ، وترى آخر جبهته نصف وجهه ، أو أنفه كذا وكذا . . إلخ ، هذا جريء القلب ، وهذا رعديد جبان ، هذا فصيح اللسان ، وهذا عَيى لا يكاد ينطق لذلك يقول سبحانه { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ … } [ الروم : 22 ] . من طلاقة القدرة أنه سبحانه { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً } [ الشورى : 49 - 50 ] . من طلاقة القدرة أنْ يؤلف الله سبحانه بين الأجناس المتباعدة تآلُفَ مصلحة وانتفاع ، ففي السودان مثلاً بيئة تعيش فيها التماسيح ، ورغم ما عرفناه من شراستها إلا أن الله ألَّف بينها وبين الطيور ، فجمعتهم مصالح مشتركة : التمساح يخرج إلى البَرِّ ثم يفتح فَاهُ ، فيأتي الطائر ويدخل فم التمساح ، ويُنظف له أسنانه ويتغذَّى على بقايا طعام التمساح ويخلِّصه من الفضلات ، فإذا أحسَّ الطائر بقدوم الصياد صوَّت ليحذر التمساح ، فتسرع إلى الماء ، سبحان الله الذي خلق فسوَّى ، والذي قدَّر فهدى . إنك تتعجب من طلاقة القدرة حين ترى عنق الزرافة أو الجمل ، وعنق الدب مثلاً ، فكُلٌّ له ما يناسبه . تذكرون أنه عندما تكلم العلماء عن الحواس ، قالوا : الحواس الخمس . واحتاطوا للأمر وللزيادة فقالوا : الخمس المعروفة ، وبالفعل عرفنا بعدها حواسَّ أخرى ، كحاسة البَيْن التي نعرف بها مثلاً سُمك القماش ، وعرفنا حاسَّة العَضل التي نعرف بها ثقل الأشياء . كما أن أعضاء الإنسان وحواسّه تؤدي مهمتها مع اختلافها من شخص لآخر ، فنحن جميعاً نرى بالعين ، ونسمع بالأذن ، ونشُم بالأنف وهكذا ، لكن ألم تسمع فلان هذا يسمع دبة النملة ، وروى لنا التاريخ عن شخصيات كانت ترى لمسافات بعيدة على غير المعتاد ، هذا كله زيادة في الخَلْق ، يختصُّ الله بها مَنْ يشاء . لذلك يقول الشاعر : @ سُبْحَانَ مَنْ قَسَمَ الحُظُوظَ فَلا عتَابَ ولاَ مَلاَمَه أعْمى وأَعْشى ثُمَّ ذُو بَصَرٍ وزرْقَاء اليَمَامَه @@ وزرقاء اليمامة يُضرب بها المثل في حِدة البصر ، فيقولون : أبصر من زرقاء اليمامة . ويُلخِّص الشاعر قصة فتاة منحها الله هذه الزيادة في البصر ، فقال : @ وَاحْكُمْ كحُكْمِ فَتَاةِ الحيِّ إذْ نظرَتْ إلى حمام شِراعٍ وَارد الثُّمَدِ قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد @@ وكان عندها حمامة واحدة ، فتمنَّتْ أنْ ينضم هذا السرب ونصفه إلى حمامتها ، وبذلك سيكون عندها مائة : @ فَعَدوه فَألْفَوْهُ كما حكمَتْ سِتّاً وسِتِّين لَمْ تنقُصْ ولم تزد @@ فتأمل هذه الفتاة تنظر إلى سِرْب الحمام وتعده ، وتضيف إليه نصفه ثم تضيف حمامتها ، فيكون لديها مائة حمامة ، هذه قوة في البصر ، وقوة في الملاحظة . كذلك حاسة الشم فيها عجائب مما يزيده الله في هذه الحاسة عند مَنْ شاء أن يزيده ، والمثال الواضح لحاسة الشم وتمييز الروائح عند كلب البوليس مثلاً ، وحاسة الشم قوية أيضاً عند الذين يبيعون الروائح والعطور ، فأنت تقول رائحة طيبة ، لكن قليل مَنْ يميز بين هذه الروائح ، أما بائع الروائح فرغم امتلاء أنفه بهذه الروائح الطيبة إلا أنه لا يستطيع أن يُميِّزها فيقول لك : هذه رائحة ورد ، وهذه رائحة فل ، وهذه كذا ، وهذه كذا ، فإنْ خُلِط له عدة أنواع يقول لك : هذا مخلوط . أما سيدنا يعقوب عليه السلام فقد تميَّز في هذه الحاسة بصورة عجيبة ، وتعلمون أنه ابتلي بفقد ولده يوسف - عليه السلام - حين رماه إخوته في البئر ، وانتهى الأمر به إلى أنْ صار على خزائن مصر كلها ، وجاءه إخوته يطلبون الميرة إلى أن أعطاهم قميصه ليجعلوه على وجه أبيه فيرتد له بصره ، العجيب هنا أنه لما فصلت العير يعني : خرجت من مصر وعن حيزها السكاني لأن المنطقة السكنية تكثر الروائح فيها وتختلط ، فلما خرجوا بقميص يوسف خارج المدينة ، قال يعقوب عليه السلام - وهو آنذاك - بأرض فلسطين : { إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } [ يوسف : 94 ] ، لأن في قميص يوسف شيئاً من رائحته . ومع تقدُّم العلم عرفنا أن الرائحة هي أقوى الآثار الدالة على الإنسان ، وأن للرائحة بصمة كبصمة اليد أو بصمة الصوت لذلك حتى في لغتنا العامية نقول مش ح اخللي لفلان ريحه ، وكأن الرائحة هي آخر أثر يمكن أنْ يتبقَّى للإنسان في المكان . كذلك يزيد الله في الخلق مَا يشاء في حاسة الذوق ، وبعض الناس حرفته وعمله أنه ذوَّاقة يذوق الطعام ، ويزيد الله في الخَلْق ما يشاء في حاسة اللمس ، وكلنا رأى الصراف في البنك بمجرد أنْ تلمس أصابعه العملة يعرف جَيِّدها من زائفها . كل هذه المعاني نفهمها من قوله تعالى : { يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } [ فاطر : 1 ] ثم تختم الآية بما يُطمئِن القلوب إلى هذه الطلاقة { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ فاطر : 1 ] هذه هي العلة ، يعني : لا تتعجب ، فهي قدرة الله التي لا يُعجزها شيء ، وشيء هذه تعد جنس الأجناس لأنها تشمل من الذرَّة إلى المجرَّة ، وهو سبحانه يقول للشيء كُنْ فيكون ، فكأنه موجود في علم الغيب ينتظر الأمر بأن يظهر . وبعضهم قال : يَزِيدُ في الحَلْق بالحاء ، والمراد : جمال وعذوبة الصوت لأن الصوتَ وسيلةٌ لنقل خواطر المتكلم إلى السامع ، وهذه يكفي لها أيُّ صوت ، فإنْ كان الصوت جميلاً عَذْباً ، فهذه زيادة وفضل من الله . ومن أغرب ما رواه لنا تاريخ العرب ، ويُعَدُّ دليلاً على الزيادة في الخَلْق ، والمواهب التي يختصُّ الله بها مَنْ يشاء ما رُوى عن نزار ابن معد بن عدنان ، وقد رزقه الله أربعة من الأولاد هم : مُضَر . ومن قبيلته جاء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وربيعة ، وإياد ، وأنمار ، فلما أحسَّ نزار بدُنُوِّ أجله جمع أولاده الأربعة وقال لهم : أريد أنْ أدلَّكم على تركتكم مني قبل أن أموت : القبة الحمراء لمضر ، والفرس الأسود والخباء الأسود لربيعة ، والشمطاء لإياد ، ومجلس القوم وندّيه لأنمار . وإنِ اختلفتم فاذهبوا إلى الأفعى الجرهمى بنجران يُفسِّر لكم كلامي . فلما مات نزار اختلف أولاده ، فذهبوا إلى الأفعى الجرهمى ، وهم في طريقهم إلى نجران - وكانت من أرض اليمن - رأى مُضَر في ناحية الطريق مرعىً رعَتْ فيه إبل ، وفي الجانب الآخر مرعى أحسن منه لم يُمَسّ ، فقال : إن الجمل الذي رعى هنا أعور . فقال ربيعة : وهو أزور يعني : أعرج . وقال أنمار : هذا الجمل أبتر يعني مقطوع الذيل . وقال إياد : وإنه لشرود . وبينما هم على هذه الحال قابلهم رجل ينشُد بعيره يقول : هل رأيتم بعيراً شرد مني ؟ فقال مضر : أهو أعور ؟ قال : نعم ، قال : وأزور ؟ قال : نعم ، قال : وأبتر ؟ قال : نعم ، قال : وشرود ؟ قال : نعم ، هو شرود ، وأنتم أخذتموه ، فاحتكموا إلى الأفعى الجرهمى ، لأنهم كانوا على مقربة من نجران ، فلما سألهم قالوا : ما أخذنا الجمل . فقال : إذن كيف وصفتموه لصاحبه هذا الوصف ؟ قال مُضَر : لما رأيتُه رعى جانباً دون الآخر عرفتُ أنه أعور ، وقال ربيعة : لما رأيتُ أثر خُفِّه على الأرض وجدت اليُمْنى سليمة البصمة على الرمال ، والأخرى غير ذلك ، فعرفتُ أنه أَزْور ، وقال إياد : رأيت بَعْره في مكان واحد ، فعرفت أنه أبتر ، ولو كان له ذيل لفرَّق بَعْره هنا وهناك ، فقال أنمار : لما رأيتُه يأكل من أماكن متفرقة عرفْتُ أنه شرود . فقال الأفعى الجرهمى : خَلُّوا سبيلهم ، فتلك فراسة يهبها الله لمن يشاء . ثم سألهم : مَنْ أنتم ؟ فقالوا : نحن أولاد نزار بن معد بن عدنان ، وقد أوصانا أبونا إذا اختلفنا أنْ نحتكم إليك ، ثم قَصُّوا عليه مقالة أبيهم ، فقال : القبة الحمراء التي لمضر . أعطوه كل شيء أحمر كالدنانير والنُّوق الحمر لذلك سُمِّيت مضر الحمراء بعد أن صار مُضَر عَلَماً على القبيلة . وقال : والفَرَس الأدهم والخباء الأسود لربيعة يعني : أعطوه كل شيء فيه سواد ، والشمطاء لإياد : أعطوه رُذَال المال و المدعبلات من الغنم . أما أنمار فله الفضة البيضاء والمجلس . وبعد أن فسَّر لهم وصية أبيهم أراد أنْ يكرمهم ، فأمر كهرمانه أن يذبح لهم ذبيحة ، ويُعد لهم طعاماً وشراباً ، وعلى مائدة الطعام جلسوا يتحدثون ، وهو يتأمل فراستهم ، فقال ربيعة : ما رأيتُ أطيب من هذا اللحم ، لولا أن أمه غُذِّيَتْ بلبن كلبة ، فلما شربوا من الشراب قال مُضَر : شراب طيب لولا أنْ كَرْمته زُرِعت على قبر ، ثم قال أنمار : هذا الرجل من سَرَاه القوم وهو سيد ، إلا أنه ليس ابن أبيه ، فقال إياد : والله ما رأينا كلاماً أحسن من كلامنا بعضنا مع بعض . ثم قام الأفعى الجرهمى واستدعى الراعي الذي ذبح لهم الشاة ، وسأله : ما هذه الشاة التي ذبحتَها لنا ؟ فقال له : ماتت أمها بعد ولادتها ، ولم يكُنْ عندنا شياه مرضعة ، فأرضعتُها من كلبة ، ثم سأل كهرمانة عن الشراب فقال : هو من العنبة التي زرعْتَها على قبر أبيك ، فلم يَبْق إلا أنْ يسأل عن نسبه إلى أبيه ، فذهب إلى أمه وقال لها : يا أمي ، أخبريني مَنْ أنا ؟ ومَنْ أبي ؟ فأحسَّتْ الأم أنه سمع شيئاً فقالت له : لقد كان أبوك مَلِكاً مطاعاً ، وذا نعمة ومال ، إلا أنه لم ينجب ، فخشيتُ أنْ يذهب هذا الملْك وهذا المال إلى غيره ، فحدث ما حدث . عندها عاد إلى ضيفانه وقال لهم : لم تعودوا فى حاجة إليَّ ، وإنما يصبح الناس جميعاً في حاجة إليكم . فإنْ سألتَ الآن : وكيف عرف هؤلاء ما عرفوا ؟ نقول : إنها فراسة وقوة وملاحظة تدخل تحت هذه الآية { يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } [ فاطر : 1 ] . ثم يقول الحق سبحانه : { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ } .