Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 35, Ayat: 29-30)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
بعد أن ذكر الحق سبحانه العلم الكوني ، وأنه وسيلة لخشية الله ومعرفة أسراره في كونه أراد سبحانه أنْ يلفت أنظارنا وأنْ يحذرنا : إياكم أنْ تُفتنوا بالعلم الكوني فينسيكم مهمتكم في أنْ تتلقَّوا عن الله ما يُسعدكم ، فتحدَّث سبحانه عن المنهج : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ ٱللَّهِ } [ فاطر : 29 ] وهذا هو العلم الشرعي والذِّكْر الذي يعصم الناس من اختلاف الأهواء . ومعنى { يَتْلُونَ كِتَابَ ٱللَّهِ } [ فاطر : 29 ] أي : تلهج به ألسنتهم ، وتعيه قلوبهم { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ } [ فاطر : 29 ] وهذه عبادة تشترك فيها كل الجوارح { وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } [ فاطر : 29 ] والإنفاق يخصُّ الناحية المالية ، فهو دليل على سماحة النفس بما تنفق ، وحُبها للبذل والعطاء في السِّر والعلانية ، وبالإنفاق تكتمل لهذه النفس الصفات الطيبة ، ويجتمع لها عمل القلب وعمل الجوارح في طاعة الله . وقوله : { مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } [ فاطر : 29 ] يعني : أن الإنفاق ليس من مالك الخاص ، إنما من مال الله الذي رزقك ، وجعلك مُسْتخلَفاً فيه وما نفقتُكَ إلا سبب ، والأسباب في الكون ستر ليد الله في العطاء . وهؤلاء الذين ينفقون مما رزقهم الله سراً وعلانية { يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } [ فاطر : 29 ] . فالإنفاق في سبيل الله تجارة مع الله { لَّن تَبُورَ } [ فاطر : 29 ] أي : لن تكسد ، وأنت حين تنفق على المحتاجين ، وحين تطعم الجائع إنما تُحبِّب الله إلى خَلْقه أرأيت لو أن مَلِكاً من ملوك الدنيا له عبيد ، أليس مكلَّفاً بإطعامهم وسَدِّ حاجتهم ، وهذه من سمات العظمة فيه ، كذلك الحق سبحانه هو خالق هؤلاء الفقراء ، وهو الذي استدعاهم للوجود ، وهو سبحانه المكلّف باقتياتهم . إذن : حين تطعمهم أنت فكأنك تؤدي مهمة الله عز وجل ، وتُحبِّب خَلْق الله إلى الله ، فالحق سبحانه حين يعطف مخلوقاً على مخلوق يقول : كأن عبدي يعينني على خَلْقي لأن الله تعالى استدعى الخَلْق للوجود ، وتكفَّل بأن يُغنيهم ، فحين يأتي عبده الغني ويكون في عَوْن الفقير يقول سبحانه : كان عبدي في عون أخيه بقدرته ، فلا بُدَّ أنْ أكون في عونه بقدرتي ، فالعبد لا يكون أبداً أكرم من خالقه ، وكيف يعطف العبد وهو لم يخلق شيئاً ، ولم يستدع أحداً للوجود ، ولا يعطف الخالق سبحانه ؟ فإنْ قلتَ : ما دام الحق سبحانه قد استدعى الخَلْق للوجود ، فلماذا لم يضمن لهم الحياة الكريمة التي لا يحتاجون فيها لعطف أحد غيره ؟ نقول : أراد الحق سبحانه أنْ يزرع بذور المحبة والتعاطف بين خَلْقه ، أراد مجتمعاً مسلماً قائماً على المحبة وعلى التعاون وعلى التكافل ، ثم وَعَد سبحانه السخيَّ المعطي بأنْ يعامله بقدر سخائه وعطائه هو سبحانه . هذه هي التجارة مع الله التي لا تبور ، والبَوْر والبَوار . أي : الفساد وهو يصيب التجارة من ناحيتين : إما فساد في الربح ، كأن تتبعك التجارة ولا تربح ، أو فساد في الربح وفي الأصل يعني : تخسر أصل التجارة ، ومعلوم أن الإنسان لا يتاجر إلا بقصد الربح لذلك قال أهل المعرفة وأهل التجارة مع الله : إنْ أردتَ الربح المحقق فتاجر مع كريم وهبك ما تجود به ، وبعد ذلك يجازيك عليه . لذلك كان أحد الصالحين يهشّ في وجه السائل ويبشّ ويقول له : مرحباً بمَنْ جاء ليحمل عني زادي إلى الآخرة بغير أجرة . وسُئِل الإمام على - رضي الله عنه - يا أبا الحسن ، أريد أنْ أعرف نَفسي ، أأنا من أهل الدنيا ؟ أم من أهل الآخرة ؟ فقال : إنْ كنتَ تهشّ لمن يعطيك أكثر مَمَّن يأخذ منك ، فأنت من أهل الدنيا لأن الإنسان يحب مَنْ يعمر ما يحب . " ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال له صحابي : أنا أكره الموت ، فقال له الرسول : " ألكَ مال ؟ " قال : نعم ، قال : " أتتصدَّق به " ؟ قال : لا ، قال : " إن المال يحب صاحبه ، فإنْ كنتَ تحبه في الآخرة أحببتَ أن تموتَ للآخرة ، وإنْ كنتَ تحبه في الدنيا أحببتَ أنْ تظلَّ معه في الدنيا " . واستخدام أداة النفي لن هنا له مَلْحظ ، فلن تنفي الحال والاستقبال لأن الإنسان قد يموت قبل أنْ يدرك ثمرة الخير في هذا العطاء ، وقبل أنْ يرى نتيجة صِدقه لذلك يطمئنه ربه بأن هذه تجارة مع الله لن تبور ، وسوف ينتظره جزاؤها في الآخرة وقوله تعالى : { سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } [ فاطر : 29 ] أي : على أي حال ، أما نفقة السر ، فالحكمة منها أنها تبعد صاحبها عن الرياء أو المباهاة ، وهي أيضاً ستر لحياء الآخذ لذلك كان بعض العارفين إذا أراد أنْ يعطف على فقير أو محتاج يحتال على ذلك بحيلة تحفظ للمحتاج ماء وجهه ، فيكلّفه مثلاً بعمل بسيط ، ثم يعطيه المال على أنه أجره على العمل ، لا على أنه صدقة . والبعض يتأدب في هذه المسألة ، فيعطي المحتاج على أنها قرض وفي نيته أنها صدقة ، وربما أكد هذا المعنى ، فقال لصاحبه : ربنا يُعينك على السداد ، لكن إياك تاكله . وبعضهم يعطي الصدقة على أنها أمانة ، لكن يقول للآخذ : إذا تيسَّر لك هذا المبلغ وأصبح فائضاً عن حاجتك فأعطه محتاجاً إليه ، وقُلْ له يعطيه بدوره إلى مَنْ يحتاج إليه بعده ، وهكذا تتنامى الصدقة ، وتدور على ما شاء الله من المحتاجين إليها . هذا عن صدقة السر ، أما العلانية فالحكمة منها أنها تمثل زاجراً للواجد حتى لا يبخل ولا يضنّ بما عنده ، كذلك تحمي صاحبها من ألسنة الناس ، وتحمي عِرْضَه أنْ يخوضَ الناس في حقه فيقولون : يبخل رغم غِنَاه . كما أن الإنفاق علانية يُعَدُّ نموذجاً وأُسْوةً للغير في العطاء . وقال العلماء : يُراد بالسر الصدقة الزائدة على الفريضة ، وهذه ينبغي فيها الستر ، ويُراد بالعلانية الزكاة المفروضة لأن الجهر في العبادة مطلوب كما هو الحال في الصلاة مثلاً ، والمتأمل يجد الزكاة أوْلَى بالعلانية من الصلاة ، فمن اليسير إقامة الصلاة في أوقاتها ، أما الزكاة فقد تكون واجداً لكن تشح نفسُك وتبخل بالعطاء . وأنت حين تُنفق تنفق على مَنْ ؟ على محتاج غير قادر أو مسلوب القدرة ، ومَنِ الذي سلبه القدرة ؟ الله ، لذلك كلفك الله أنْ تنفق على مَنْ سلبه القدرة ، وأنْ تعينه : أولاً حتى لا يحقد عليك ، وحتى يتمنى لك المزيد من الخير لأن خيرك سيعود عليه ، لذلك كنا نرى أهل الريف مثلاً يحزنون ويبكون إنْ ماتت بقرة فلان أو جاموسة فلان ، لماذا ؟ لأنها كانت تسقي الفقراء من لبنها ، وتحرث أرض المحتاج . ثانياً : وهذه حكمة أسمى من الأولى ، وهي أن النفقة على غير القادر تجعله لا يغير خواطره على ربه وخالقه وتحميه من الاعتراض على قَدر الله الذي منعه وأعطى غيره ، وضيَّق عليه ووسَّع على الآخرين . النفقة على غير القادر تجعله يشعر أنه أحظُّ حالاً من الغنى ، ولم لا وهو يُسَاق له رزقه دون تعب منه ودون عناء ؟ ويأتيه الغنى إلى بابه ليعطيه حقه في مال الله . لذلك قال العلماء : الفقير شرط في إيمان الغني ، وليس الغني شرطاً في إيمان الفقير . لذلك يعلمنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول : " … ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " . والحق سبحانه وتعالى لما تكلَّم عن المحسنين الذين يكلِّفون أنفسهم فَوْق ما كلَّفهم الله ، ومن جنس ما كلَّفهم الله ، يقول سبحانه : { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [ الذاريات : 15 - 19 ] . فالحق غير المعلوم هو الصدقة ، أما الزكاة المفروضة التي هي حق الفقير في مال الغني فقد وردتْ في صفات المؤمنين في سورة سأل فقال سبحانه : { وَٱلَّذِينَ فِيۤ أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [ المعارج : 25 ] . لذلك ، فالزكاة لا تَخْفى ، بل تُؤدَّى علانية ، لأنك تُؤدِّي حقاً عليك للفقير ، حتى أن بعض فقهاء الأندلس رضي الله عنهم قال : لو مُكنت بولاية أمر على المؤمنين ، فرأيتُ مَنْ يمنع الفقير حقَّه بمقدار نصاب لأَتيتُه لأقطع يده ، فتأمل هذا الاجتهاد من العلماء ، وكيف ساووا بين منع الفقير حَقَّه والسرقة . وسواء أكان الإنفاق سِرّاً أم جهراً وعلانية ، فلا بُدَّ أن تتوفر له النية الخالصة كما علَّمنا ربنا في الحديث القدسي : " الإخلاص سر من أسراري ، أودعته قلب مَنْ أحببتُ من عبادي ، لا يطلع عليه مَلَك فيكتبه ، ولا شيطان فيفسده " وأنت في عطائك تتعامل مع الله ، والله واجد ماجد كريم ، لا يبخسك حقك ، وتجارتك معه سبحانه لا بُدَّ أن تكون رابحة لذلك قال بعدها : { يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } [ فاطر : 29 ] . كذلك يحذرنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرياء الذي يحبط الأعمال ، ويفسدها ويحرم صاحبها من ثمرتها يوم القيامة ، حيث يقال له : فعلتَ ليقال وقد قيل . ويحذرنا سيدنا رسول الله أن تكون أعمالنا كأعمال الكافرين الذين قال الله فيهم : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [ النور : 39 ] . ثم يقول سبحانه : { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ … } [ فاطر : 30 ] أي : أنهم سيأخذون جزاء أعمالهم وعطائهم بوفاء من الله ، ثم يزيدهم بعد ذلك من فضله تكرُّماً ، قالوا هذه الزيادة أن تقبل شفاعتهم فيمن يحبون ، فإنْ شفعوا لأحد من أحبابهم قَبِل الله شفاعتهم ، لماذا ؟ لأن لهم أياديَ سابقة على الفقراء والمحتاجين من عباد الله ، يكرمهم الله من أجلها ، ويتفضَّل عليهم كما تفضَّلوا على عباده . { إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } [ فاطر : 30 ] . ولك أنْ تسأل : لماذا ذُيِّلت الآية باسم الله الغفور ، مع أنها تحدثت عن أعمال الخير من تلاوة كتاب الله ، وإقامة الصلاة ، والإنفاق في سبيل الله ، فأيُّ شيء من هذه يحتاج إلى المغفرة ؟ قالوا : ذكر هنا المغفرة ، لأن العبد حين يضع شيئاً من هذا الخير قد يُداخله شيء من الغرور أو الإعجاب أو غيره مما يشوب العمل الصالح ، فيغفرها الله له ، ليلقى جزاءه خالصاً لذلك ورد في حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم إني أعوذ بك من عمل أردتُ به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك " . وقوله { شَكُورٌ } [ فاطر : 30 ] صيغة مبالغة من شاكر ، فكأن الله تعالى بعظمته يشكر عبده ، بل ويبالغ في شكره لأن العبد في ظاهر الأمر عاون ربه في أنْ يرزق مَنْ كان مطلوباً من الله أنْ يرزقه لذلك يشكره الله ولا يبخسه حقه ، مع أنه في واقع الأمر مُنَاول عن الله . وأنت حين تقرؤها : { إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } [ فاطر : 30 ] وتعلم أنه تعالى يشكرك لا تملك إلا أنْ تشكره سبحانه ، وعندها يزيدك من النعمة ، إذن : نحن أمام شكر دائم لا ينقطع ، وعطاء لا ينفد .