Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 35, Ayat: 31-31)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الوحي في معناه العام كما قلنا : إعلام بخفاء ، فإنْ كان جهراً وعلانية فلا يُعَدُّ وَحْياً ، فأنت مثلاً يدخل عليك جماعة من الضيوف فتنظر مجرد نظرة إلى خادمك يفهم منها ما تريد دون أنْ يشعر أحد بك ، هذا يُعَد وحياً . كذلك الوحي الشرعي لا يأتي علانية ، إنما خُفية بين الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم . الوحي يختلف باختلاف الموحِي ، والموحَى إليه ، والموحَى به . فالله تعالى يُوحي للجماد ، كما أوحى للأرض : { بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا } [ الزلزلة : 5 ] . ويُوحي للنحل : { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً … } [ النحل : 68 ] . وأوحى البشر من غير الرسل : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ } [ القصص : 7 ] وأوحى للحواريين . أما الوحي الشرعي الذي يتعلّق بالتكاليف فَوَحْي من الله وخطاب إلى الرسُل بمنهج ليبلغوه عن الله ، وليس مجرد خاطر أو إلهام كالوحي السابق ، ومن الوحي أنْ يُوحي الشياطين إلى أوليائهم ، يقول الحق سبحانه : { وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَٰدِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 121 ] . قوله تعالى : { وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ } [ فاطر : 31 ] أي : من القرآن . أو من اللوح المحفوظ { هُوَ ٱلْحَقُّ } [ فاطر : 31 ] أي : القرآن هو عَيْن الحق ، وقد عرفنا من دراساتنا النحوية أن المبتدأ يأتي دائماً معرفة ، لأنك ستحكم عليه ، ولا يمكن أن تحكم على مجهول فتقول مثلاً : زيد مجتهد . فزيد معروف لك حكمتَ عليه بأنه مجتهد ، إذن : المجهول هو الخبر ، لذلك يأتي نكرةً دائماً ، فإذا قلتَ زيد هو المجتهد ، فإن هذا يعني أنه بلغ من الاجتهاد مبلغاً ، بحيث إذا أُطلِق الاجتهاد لا ينصرف إلا إليه . كذلك في قوله تعالى { هُوَ ٱلْحَقُّ } [ فاطر : 31 ] : أي : لا ينصرف الحق إلا إليه ، وهو عَيْن الحق ، ومعنى الحق الشيء الثابت الذي لا يتغير ولا يتضارب ، وحتى لا يفهم أحد أنه ما دام القرآن هو الحق فغيره من الكتب السابقة باطل ، قال سبحانه : { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [ فاطر : 31 ] فالقرآن حق ومُصدَّق لما سبقه من الكتب السماوية ، فهي أيضاً حق لأن القرآن صدَّق عليها ، ولم يأتِ مخالفاً لها . وفي موضع آخر ، قال تعالى : { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } [ المائدة : 48 ] . فكأن الحق سبحانه يعطي للقرآن صَوْلة الخاتم النهائي في الإكمال البشري ، فإنْ جاء حكم في الكتب السابقة ثم نزل حكم آخر في القرآن فلنأخذ بالحكم الأخير لأنه نسخ الأول لمصلحة يقتضيها العصر وطبيعة التكاليف التي تتدرج حسب حالات الأمم . فكأن الحق سبحانه ميَّز رسوله صلى الله عليه وسلم بميزة لم تتوفر لغيره من الرسل ، وهي أن الرسل السابقين كانوا يُبلِّغون ما يُوحَى إليهم لأممهم ، لكن الله أذن لرسوله أن يُبلِّغ عن الله وفوَّضه أن يُشرِّع لقومه لذلك قال سبحانه : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [ الحشر : 7 ] . وهذه الآية ترد على الذين يقولون بأَخْذ القرآن دون السنة ، هذه الفِرْية القديمة الحديثة التي نسمع مَنْ ينادي بها من حين لآخر ، وهم لاَ يعلمون أن نصَّ القرآن يُلزمهم بالسنة واحترامها والأخذ بها لأنها مُوضِّحة للقرآن ، مُبيِّنة له ، شارحة لما أُجمل فيه ، وإلا فماذا يقولون في قوله تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [ الحشر : 7 ] ؟ ولو قُلْتُ لك : هل في دستورنا مادة تنصُّ على فَصْل الموظف الذي يتغيَّب عن عمله خمسة عشر يوماً ؟ لا توجد هذه المادة في الدستور ، إنما هي قانون وضعه جماعة من المختصين المفوضين في ذلك ، حيث يُؤلَّف للخادمين في الحكومة والعاملين بها لجنة تضع لهم القوانين بالتفويض ، كذلك فُوِّض رسول الله من قِبَل ربه عز وجل في أنْ يُشرِّع لأمته ، وأنْ يُوضِّح لهم . ثم يقول سبحانه : { إِنَّ ٱللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } [ فاطر : 31 ] الخبير : هو الذي يعلم خبايا كل الأشياء على حقيقتها ، والبصير : هو الذي لا يغيب عنه شيء ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة ، فقد تعلم الشيء لكن لا تراه ، والحق سبحانه يجمع في القرآن كثيراً بين الخبير البصير كما في هذه الآية ، أو بين اللطيف الخبير لأن الخبرة تحتاج إلى بصر وتحتاج إلى لُطْف . واللطيف كما قلنا هو الذي يتغلغل في الأشياء ولا يمنعه مانع . لذلك قلنا : إن أعنف الأشياء فَتْكاً هي الدقيقة اللطيفة التى لا تُرى بالعين المجردة ، وكنا زمان نسميها الميكروب ، والآن ظهر الفيروس ، أظن أنه ألطف وأدقّ من الميكروب ، وأشدّ منه فَتْكاً . وقد أوضحنا هذه المسألة بالذي يبني بيتاً مثلاً ، ويريد أن يحتاط للحيوانات والحشرات الضارة ، فيضع شبكة من الحديد مثلاً على الشبابيك ، لكن لا بُدَّ أن تتناسب هذه الشبكة مع دِقَّة الشيء الذي تخاف منه ، فالذي يمنع الذئاب ، غير الذي يمنع الفئران ، غير الذي يمنع الذباب والناموس … الخ . إذن : كلما دَقَّ الشيء عَنُفَ واحتاج إلى احتياط أكثر ، لأنه يتغلغل في أضيق شيء وينفذ إليك دون أنْ تشعر به . ونفهم من قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } [ فاطر : 31 ] أن الله تعالى هو القادر وحده على أنْ يُشرِّع لعباده ما يناسبهم في كل زمان ومكان لذلك تعددتْ الكتب السماوية لما اختلفتْ الداءات ، فلما التقى العالم واتصل جاء القرآن مهيمناً على كل هذه الكتب . ثم يقول الحق سبحانه : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا … } .