Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 35, Ayat: 44-44)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الاستفهام في { أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ … } [ فاطر : 44 ] استفهام يفيد التعجُّب ، يعني : كيف يكون منهم هذا { أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [ فاطر : 44 ] أي من المكذِّبين الذين أخذهم الله { وَكَانُوۤاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } [ فاطر : 44 ] . كما قال سبحانه في موضع آخر : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وَبِٱلَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ الصافات : 137 - 138 ] . نعم ، كانوا في حركة حياتهم وفي أسفارهم يمرُّون على قُرى عَادٍ وثمود ، وقوم لوط وقوم صالح … الخ وكانوا يروْنَ آثارهم وما حَاق بهم من الدمار والخراب بعد أنْ كذَّبوا رسلهم ، وكانوا أصحاب حضارات وعمارة وقصور لا مثيل لها . كما قال سبحانه : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ * ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ * وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ * ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِي ٱلْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } [ الفجر : 6 - 14 ] . والعجيب أن أصحاب هذه الحضارات التي جابت سمعتُها الآفاق لم يستطيعوا أن يضعوا لحضاراتهم ما يصونها من الاندثار . ولنا ملحظ في قوله سبحانه : { أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } [ فاطر : 44 ] . فمنذ عهد قريب كنا نعتقد أن السير في الأرض يعني على الأرض لأننا نسير عليها لا فيها ، إلى أن اكتشفنا أن الأرض فيها الأقوات ، وسيد الأقوات الهواء ، بدليل أنك تصبر على الماء لعدة أيام ، وتصبر أكثر منها على الطعام ، لكنك لا تصبر على الهواء إلا بمقدار شهيق أو زفير ، لو حُبس عنك لفارقتَ الحياة . وعرفنا أن هواء الأرض من الأرض لذلك يدور معها ويرتبط بها إذن : نحن بهذا المعنى لا نسير على الأرض ، إنما نسير فيها ، حتى الذي يحلق بالطائرة في طبقات الجو العليا أيضاً يسير في الأرض لأن الهواء من الأرض ، وهو أصل قوامها نفساً وقوتاً . وليتأكد لك أن الهواء سيد الأقوات ، إجر هذه التجربة ، خذ إصيصاً أو برميلاً مثلاً وضَع فيه تربة زراعية بوزن معين ، وازرع فيه شجرة مثمرة كالموز مثلاً ، وبعد فترة زِنْ الثمار التي أخذتها من الشجرة وزِن ما نقص من التربة ، وسوف تجد أن التربة نقصتْ بمقدار خمسة بالمائة ، أما نسبة الخمسة والتسعين فمن الهواء . فكأن الهواء هو المغذِّى الأساسى للنبات لذلك نقول : إنه الأصل فى القوت ، على خلاف ما كنا نعتقده من أن التربة هي الأصل في القوت ، لذلك يشير القرآن إلى هذه المسألة ، فيقول سبحانه : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } [ المائدة : 66 ] فذكر الفوقية قبل التحتية . الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية { أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ . . } [ فاطر : 44 ] يريد من الكفار أنْ ينظروا إلى مواقع الحياة ، لا إلى كلامنا ، ولا إلى كلامهم ، بل واقع الحياة المشَاهَد ، فقال { أَوَلَمْ يَسِيرُواْ } [ فاطر : 44 ] لأنهم ساروا بالفعل لأنهم كانوا أمة لها تجارة في الصيف إلى الشمال ، وفي الشتاء إلى الجنوب . وفي هذه الأسفار رأوا الكثير من آثار مَنْ سبقهم ، فهل رأوا في السابقين رسولاً هُزِم من المكذبين به ؟ لقد هزم الله المكذبين والكافرين ، وكتب النصر للمؤمنين الصادقين ، وهؤلاء الذين أخذهم الله كانوا أشدَّ منهم قوةً ، لكنها قوة البشر مهما بلغتْ من التقدم ماذا تفعل أمام قوة الله ، فلا تنظر إلى قوة الرسول ، لكن انظر إلى قوة مَنْ أرسله ، ومَنْ تكفَّل بحفظه ونصرته . إذن : هذه معركة ليست بين خَلْق وخَلْق ، إنما بين خَلْق معاندين للخالق سبحانه ، فهل تُعجِزون الله ؟ لذلك ينفي الحق سبحانه أنْ يكونوا معجزين ، وينفي أن يكونوا معاجزين ، وفَرْق بين الاثنين : معجز إنْ أعجزه ولو مرة يعني : أتى بما يعجزه ، إنما مُعاجز فيها مشاركة ومفاعلة ، كأن الإعجاز كان بينهما سِجَال ، وفيه أَخْذ ورَدٌّ . فكأن الحق سبحانه يُملي لهم ويمهلهم ، فيجعل لهم الغَلَبة ، في بعض الجَوْلات ليستنفد كل أنواع الحيل ، ويستنفد كل قُواهم ، إذن : مهما كانت قوتكم ، ومهما استعنتُم وتقوَّيتم بحضارات أخرى فلن تُعجزوا الله لأن الله تعالى لا يُعجزه شيء ، وليس له سبحانه شريك أو مقابل يساعدكم ، فهو إله واحد يساعد المؤمنين به وينصرهم ، وأنتم لا ناصرَ لكم ، والحق سبحانه أهلك المكذِّبين قبلكم ، وكانوا أشد منكم قوةً ، والذي يقدر على الأشدِّ أقدر من باب أَوْلَى على الأضعف . والحق سبحانه وتعالى حين يريد أنْ يؤكد أمراً واقعياً من الممكن أنْ يأتي به في صورة الخبر ، فيقول : لقد ساروا في الأرض ، ورأوا كذا وكذا ، لكن عدل عن الخبر هنا إلى الاستفهام ، يعني : اسألوهم أساروا أم لم يسيروا ؟ والحق سبحانه لا يسأل هذا السؤال إلا وهو واثق أنهم سيقولون سِرْنا ، وهذا يؤكد الكلام لأنه إقرار من المخاطب نفسه ، كما أن الاستفهام بالنفي أقوى في تقرُّر المخاطب من الاستفهام بالإثبات . ومسألة السير في الأرض أخذتْ حظاً واسعاً من القرآن الكريم لأن الله تعالى يريد من الناس أنْ ينظروا إلى الآيات الكونية ، وأنْ يتأملوا في الكون ليقفوا على أسراره ، وعلى دلائل القدرة فيه لذلك يأمرنا الحق سبحانه مرّة بقوله : { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ } [ النمل : 69 ] ومرة : { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ ٱنْظُرُواْ } [ الأنعام : 11 ] . فما الفرق بين التعبيرين ؟ قالوا : السير في الأرض يكون إما للنظر والاعتبار وإما للاستثمار ، فقوله تعالى : { فَٱنظُرُواْ } [ النمل : 69 ] للسير المراد منه الاعتبار والتأمل في آيات الله ، وفي هندسة الكون العجيبة التي تدلُّنا على قدرة الخالق سبحانه . أما قوله { ثُمَّ ٱنْظُرُواْ } [ الأنعام : 11 ] فهي للسير الذي يُرَاد منه العمل والاستثمار وطلب الرزق ، فحتى إنْ سِرْتَ في أنحاء الأرض طلباً للرزق وللاستثمار لا تَنْسَ ولا تغفل عن الاعتبار وعن التأمل ، ولا تحرم نفسك من النظر في الآيات وفي مُلْك الله الواسع ، خاصة إذا اختلفتْ البيئات . فالبيئة الصحراوية البدوية كبادية الحجاز مثلاً تسير فيها لا تكاد ترى فيها أثراً للون الأخضر ، وفي إندونيسيا مثلاً ذهبنا إلى أماكن تكسوها الخضرة ، بحيث لا ترى بقعة من الأرض خالية من النبات ، وفي كل من هاتين البيئتين خيراتها وما يُميِّزها عن الأخرى لذلك قالوا في المثل : اللي يعيش ياما يشوف ، واللي يمشي يشوف أكثر . ثم يقول سبحانه : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي ٱلسَّمَٰوَاتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً } [ فاطر : 44 ] . سبق أنْ تكلَمنا في معنى يُعجِزه ، الآية هنا لا تنفي أن شيئاً في السماوات أو في الأرض يُعجِز الحق سبحانه ، إنما تنفي مجرد أنْ يكون هذا أو يُتصوَّر ، فهذا أمر لا يُتصور ولا يكون أصلاً . وقوله : { مِن شَيْءٍ } [ فاطر : 44 ] من هنا تنصُّ على العموم يعني : من بداية ما يقال له شيء كما تقول : ما عندي مال ، فيجوز أنْ يكون لديك مال ، لكن قليل لا يُعْتَدُّ به ، فإنْ قلتَ : ما عندي من مال فقد نفيتَ وجود كل ما يُقال له مال ، مهما كان قليلاً ولو قرشاً واحداً . وقوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً } [ فاطر : 44 ] يُبيِّن علة أنه سبحانه لا يُعجزه شيء ، فالله تعالى عليم بعلم محيط لا يعزب عنه شيء ، فإن بيَّتوا شيئاً علمه الله وعلم مكانه ، ثم هو سبحانه قدير ، عالم بقدرة ، وهذان هما عُنْصرا الغَلَبة العلم والقدرة ، تعلم الشيء وتقدر أنْ تردَّه . ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ … } .