Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 35, Ayat: 5-5)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يعني : وعده حَقٌّ في أنكم ستُردُّون إلى الله في الآخرة ، فيحاسبكم ويُجازيكم ، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، وهذا مبدأ معروف ومعمول به في كل المجتمعات ، حتى البدائية منها ، وحتى الملاحدة يعملون بهذا المبدأ ، فيعطي المُجِدَّ ويعاقب المقصِّر ، بل بعض هؤلاء يضعون قوانينَ للثواب والعقاب أصرم وأشدّ من قوانين الله ، مثل قوانين الإعدام والشنق ومصادرة الأموال … إلخ . والمجتمع لا يستقيم أمره إلا بهذا المبدأ ، فإنِ اختلَّ تطبيقه فَسَد المجتمع ، وأُحبِط الأفراد ، وعمّتْ الفوضى ، ولم لا والمحسن لا يأخذ ثمرة إحسانه ، والمجرم لا يُعاقب على جريمته ؟ إذن : لا بُدَّ أنْ نربي في الناس وازعَ الرغبة في الخير ، والرهبة من الشر ليزداد المحسن في إحسانه ، ويرعوى المسيىء عن إساءته . وكيف لا يُقبل هذا المبدأ في عالم مليء بالمظالم والتعديات والبطش والجبروت ، ثم لا يأتي الوقت الذي ينال فيه كُلٌّ ما يستحقه ؟ لذلك كثيراً ما أذكر ما دار بيننا وبين الشيوعيين الذين ينكرون مسألة البعث والحساب ، فكنتُ أقول لهم : لقد أخذتم أعداءكم وقتلتموهم ، وصادرتم أموالهم ، وفعلتم بهم الأفاعيل لأنهم في نظركم غيَّروا مقاييس العطاء ، فما بال مَنْ فعلوا هذا وظلموا ، لكنهم أفلتوا منكم ، ولم تَطُلْهم أيديكم بعقاب ؟ وما بال الظالمين قبلكم وبعدكم ؟ أليس من الصواب القوْلُ بموعد يجمع هؤلاء جميعاً للحساب ، حيث ينال كل منهم جزاءه ؟ أليس هذا الجزاء يسعدكم ويُثلج صدوركم حين تروْنَ الظالم يُؤخذ بظلمه . إذن : كان عليكم أنْ تؤمنوا بهذا اليوم ، لا أنْ تنكروه وتكفروا به ، وهو يقوم على نفس المبدأ الذي تنادون به أنتم . لذلك تلحظ أن النداء هنا لكل الناس : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } [ فاطر : 5 ] أي : وعده بالقيامة والبعث والحساب ، فهذه مسألة يُخاطب بها كل الناس ، ووَعْد الله حقٌّ لأن الوعد يأخذ حقيَّة من الواعد ، ومن قدرته على إنفاذ وعده ، ومَنْ أقدرُ من الله ؟ إذن : ينبغي أن نثِقَ في الوعد إنْ جاء من الله سبحانه ، ولا نثق في وعد مَنْ لا قدرةَ له في ذاته . وسبق أن بيَّنا أن الإنسان يَعِد وينوي الوفاء وقت الوعد ، لكنه لا يملك أسباب الوفاء ، فربما طرأ عليه طارئ ، أو تغيَّرت الظروف ، فحالتْ بينه وبين الوفاء بوعده لذلك يُعلمنا ربنا أدباً عالياً في هذه المسألة في سورة الكهف ، فيقول سبحانه : { وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ … } [ الكهف : 23 - 24 ] فتعليق فِعْلك على مشيئة ربك يُعفيك من الكذب إنْ عجزْتَ عن الوفاء ، فَلَك أَن تقول : نويتُ الوفاء ، لكن الله لم يشأ . لذلك لا يُوصَف وعد بالحقية إلا وعد الله لأنه سبحانه وحده الذي يملك كل أسباب الوفاء بوعده . ولا يعوقه عن الوفاء شيء ، ولا يمانعه أحد . وما دام أن وعد الله حَقٌّ { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } [ فاطر : 5 ] لا تخدعنَّكم لأن الناس طبائع ، منهم مَنْ يغتر بثناء الناس عليه ، ومنهم مَنْ يغتر في ذاته ، وهذا هو الذي تغرُّه الحياة الدنيا بشهواتها ، فيعيش فيها بلا تكاليف وبلا التزامات ، كما فعل الكفار حين عبدوا الحجارة ، لأنها آلهة بلا تكاليف . لذلك يحذرنا ربنا : لا تخدعنكم الدنيا عن شيء آخر أعلى منها هو الآخرة ، ويكفي ذَمًا لهذه الحياة أن الله تعالى سماها دُنْيا ، والمقابل للدنيا حياة عليا هي الآخرة ، فالمعنى : لا تخدعنكم الدنيا عن مطلوب الله الذي يؤهلكم لحياة أخرى عُلْيا . وسبق أنْ بيَّنا أن الدنيا بالنسبة للإنسان هي مدة بقائه فيها ، لا عمر الدنيا كله ، وعمرك في الدنيا رغم قِصَره هو عمر مظنون ، ونعيمك فيها على قدر حركتك فيها ، أما عمرك في الآخرة فمتيقن ، ونعيمك فيها على قدر إمكانات الله ، وأنت مهما بلغتَ من نعيم الدنيا يُنغِّصه عليك أنْ يزول ، إما أن تتركه أنت وتموت ، أو يتركك هو فتظل في الدنيا رغم غِنَاك وتمتعك بها ، مُؤرَّقاً مشغولَ البال خائفاً من فوات النعمة ، أما في الآخرة فالنعمة باقية دائمة ، لا مقطوعة ولا ممنوعة . إذن : إنِ اغتررتَ بالدنيا فأجْرِ هذه المقارنة . لذلك ، لما تكلَّم الحق سبحانه عن هذه الحياة وصفها بأنها دُنْيا ، ولما تكلم عن الآخرة قال : { وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ] فمعنى الحيوان أي : الحياة الحقيقية الباقية التي لا يهددها موْتٌ ولا فناء ، فيجب - إذن - أنْ تتنبه ، وأنْ تختار البديل الأرجح والأنفع لك لذلك نقول للذين اعتمدوا على الله وعاشوا في كَنَف الله وعلى منهج الله نقول : إنهم عرفوا كيف يسوسون حياتهم ، فأخذوها من أقصر الطرق ، ونَصِف هؤلاء بالمكر ، والمراد المكر العالي المكر الحسن . وفي موضع آخر ، يُبيِّن الحق سبحانه لنا حبائلَ الدنيا ووسائل غرورها ، فيقول سبحانه : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ } [ آل عمران : 14 ] . وقوله سبحانه : { وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } [ فاطر : 5 ] أي : الشيطان ، فالخداع والغرور إما أن يكون من النفس ذاتها بدون مؤثر خارجي ، وإما أنْ يوجد شيطان سُوءٍ يغرُّك ويُوسوس لك ، إذن : أنت أمام عدوين ، إما الدنيا بشهواتها ، وإما الشيطان بهَمْزه ونَزْغه ، وقد حذرنا ربنا منه ، فقال : { وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الأعراف : 200 ] . تعني : تنبه لهذا العدو ، وكُنْ منه على حذر ، فعداوته لك مُسْبقة منذ أبيك آدم ، وكُرْهه لك واضح مُعْلَن ، فينبغي أنْ يكون لك معه موقف لذلك يقول تعالى بعدها : { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً … } .