Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 11-11)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يعني : إنذارك يا محمد يجدي مع مَنْ يذكر الله ويخافه ، ويؤمن به ، ويؤمن بقدرته تعالى على البعث وعلى الحساب ، هذا الذي ينتفع بالإنذار ويستفيد منه على خلاف المكذِّب للأصل ، كيف يستفيد من الإنذار ؟ ومعنى { ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ } [ يس : 11 ] أي : القرآن . والخشية : خوف ، لكن بمهابة ، فأنت تخاف الله وتهابه ، وكذلك ترجوه ، أما الخوف من غير الله فخوف بكُرْه لأنه خوف من جبروت لذلك جاءت بعد الخشية صفة الرحمة { وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ } [ يس : 11 ] فأنت تخاف ممَّن اتصف بالعطف والحنان ، وهذا أَدْعى أنْ يُحبِّبك فيمَنْ تخاف منه ويعطفك إليه ، فتكون خشيتك له ممزوجة بالهيبة والوقار ، وبالرجاء فيه لذلك قال سبحانه : { وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ } [ يس : 11 ] حتى لا تنفر من الذي تخافه . وهذه الخشية تكون من المؤمن { بِٱلْغَيْبِ } [ يس : 11 ] يعني : ساعةَ يكون غائباً عن الناس منفرداً ، فإنه يخشى الله ، ولا يخشى الناس ، ولا يحتاج إلى رقيب لأن رقابة البشر للبشر لا تُجدي لأنك ستجعل عليه رقيباً من جنسه ، وما جاز على المراقَب يجوز على المراقب من تدليس وغيره ، حتى حين تجعل على المراقِب تفتيشاً مفاجئاً لا تأمن التدليس . وسبق أنْ ضربنا مثلاً برجل المرور ، فالواحد منا قبل أنْ يُسمح له بقيادة سيارة لا بُدَّ أنْ يمرَّ بشروط قاسية تضمن أولاً سلامة السيارة التي يقودها ، ثم تمكّنه هو من فن القيادة ، ولا بُدَّ أنْ يجتاز الاختبارات اللازمة لذلك ، ومع هذا كله مِنَّا مَنْ يلتزم ، ومِنَّا مَنْ لا يلتزم بالقواعد المرورية لذلك نجعل رجل المرور ليراقب وينظم حركة المرور في الشوارع ، وعليه مَنْ يراقبه . لكن لما وجدوا أن رجل المرور يمكن أنْ يُدلس ، فيأخذ الرخصة من مخالف ، ويتغافل عن آخر استحدثوا آلات للمراقبة مثل الرادارات ، لتكون أكثر دقة ، لكن هذه الآلات مَنْ يُشغِّلها ؟ بشر يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم . إذن : حين يكون المراقب من جنس المراقَب ، فعملية المراقبة لا تفيد ، ولو جعلنا على كل منا رقيباً لاحتجْنا إلى جيوش من الحراس . إذن : ماذا نفعل لنحكم هذا العالم كله ؟ محمد صلى الله عليه وسلم جاء ولرسالته ميزات الرسالة الكاملة ، فرسالته غير محدودة بزمان ولا بمكان ، فالزمان والمكان هما اللذان يحصران الأحداث ، فهما ظرفان للحدث ، فإذا لم يكُنْ حدث موجوداً فلا زمانَ ولا مكانَ لذلك لا يصح أنْ يُقال بالنسبة لله تعالى : أين ولا متى ، لأن أيْن ومتى مخلوقتان لله . وإذا كان الزمان والمكان يشتركان في الظرفية للحدث إلا أن المكان ظرف قارٌّ يعني : ثابت ، والزمان ظرف متغير ، فهذا وقته الصبح ، وهذا الظهر ونقول : هذا قبل كذا ، وهذا بعد كذا . رسول الله جاء برسالة عامة في الزمان وفي المكان إلى أن تقوم الساعة ، وجاء بمنهج لصيانة الإنسان في العالم كله مع اختلاف بيئاته وطبائعه ، وفي الأزمنة باختلاف عصورها ، فكيف تتحقق هذه الصيانة وهذه المراقبة ؟ ما دام محمد صلى الله عليه وسلم قد جاء بمنهج ليحكم به العالم كله زماناً ومكاناً ، فلا يصح أنْ يجعل على كل فرد منه رقيباً من جنسه ، ولا حتى من الملائكة ، إنما عليه أنْ يربي في نفوس الناس خشية الله ، وأنْ يزرع في قلوبهم المهابة منه سبحانه بالغيب وهذا هو الرقيب الحقيقي والرقيب الملازم الذي لا ينفكّ عنك ، ولا يفارقك لحظة . لذلك ، المرأة التي راودها الرجل وأغراها بأنهما في فلاة لا يراهما أحد فقال لها : ما يمنعك مني ، وما يرانا غير الكواكب ؟ فقالت له : يا أبله ، وأين مُكوكب الكواكب ؟ هذه هي خشية الرحمن بالغيب . ورُوِي أن المعتضد وهو أحد ملوك دولة بني بُوَيْه أيام الخلافة العباسية ، وكان مشهوراً بالذكاء والعدل ، وحدث أن جاء رجل إلى سوف بغداد ليبيع عِقْداً نفيساً ليحج بثمنه ، فلم يجد في السوق مشترياً لنفاسة العقد ، ومرَّ الرجل بشيخ وقور عليه علامات الصلاح فقال : هذا رجل أمين أُودع عنده هذا العقد أمانة حتى أعود من الحج ، فلما عاد من الحج سأل الشيخ عن العقد الذي تركه عنده ، فأنكره الشيخ ، وخابت كل محاولاته لاستعادة العِقد . سمعه أحد المارة فقال : يا هذا إنه رجل مخادع كذاب ، اذهب إلى المعتضد ، وسوف يعيد لك العقد بذكائه وحيلته ، ذهب الرجل إلى المعتضد وقصَّ عليه القصة فقال له : اذهب في الغد واجلس بجوار هذا الرجل ، وسوف أمرُّ عليك في موكبي فلا تَقُمْ لي وإنْ كلَّمتُك فرُدّ وأنت جالس ، ودَعْني أتصرف في هذه المسألة . وفي الغد مَرَّ المعتضد في موكبه المهيب ، وحوله الحاشية و الهيلمان والصولجان فنظر إلى صاحب العقد وقال : يا فلان منذ متى وأنت هنا ؟ وكيف لا تخبرني بوجودك لأقابلك وأؤدي لك حقك . سمع الشيخ هذا الكلام فظنَّ أن الرجل من معارف الملك ومن أتباعه ، فارتعد ونادى صاحب العِقْد ، وقال له : أرجوك لا تذكرني أمام الملك بحكاية العِقْد هذه ، وقَام إلى العِقْد فردّه إلى صاحبه ، ذهب الرجل بالعقد إلى المعتضد فتبسم ، وقال له : انتظرني في الغد أمام دكان هذا الشيخ . وبالفعل جاء المعتضد ، لكنه هذه المرة كان بصحبته المشنقة ، فأمر بنَصْبها أمام دكان هذا المخادع ، وأمر به فشنقوه . ثم قال : هذا جزاء مَنْ كان إيمانه بين الناس مشهداً ، وليس إيمانه بالغيب - يعني : بعيداً عن أعين الناس . لذلك جعل الله المنافقين في الدرك الأسفل من النار ، وكانوا أول الناس سَعْياً للصلاة ، وكانوا أصحاب الصف الأول خلف رسول الله ، ومع ذلك كان هذا جزاءهم لماذا ؟ لأن المنافق متناقض مع نفسه ، فلسانه خلاف قلبه . ومن معاني الغيب في قوله تعالى : { وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } [ يس : 11 ] أي : الغيب الذي أخبر الله به من أن هناك آخرة وبعثاً وحشراً وحساباً . وهذه الخشية لله تكون بالغيب يعني : الإيمان بالغيب ، والله تعالى نؤمن به سبحانه وهو غيب ، والغيب كما قلنا : ما غاب عنك ولا يوجد في الكون طريق يُوصِّلك إليه ولا مقدمات ، فنحن نعرف مثلاً في حل تمارين الهندسة أو النظرية : الفرض والمعطيات والمطلوب ، فالمعطيات والمقدمات تُوصِّلك للغاية وللمطلوب . لذلك تجد أن علم الغيب ينقسم إلى قسمين : غيب استأثر الله به ، لا يُظهِر عليه أحداً إلا مَنِ ارتضى من رسول ، ولم يجعل لهذا النوع من الغيب مقدمات تُوصَل إليه وتدلّ عليه ، وهناك غيب له مقدمات تدلُّك عليه ، فإنِ استخدمتَ هذه المقدمات توصَّلْتَ بها اليوم إلى ما كان غيباً بالأمس ، وينبغي عليك أن تستدلّ بالغيب الذي صار مشهداً لك على أنْ تصدق بالغيب الذي لم تدرك غيبه ، ولا سبيل لك إليه ، ينبغي أنْ يحفزك ما ترى على أنْ تؤمن بما لم تَرَهُ . وقلنا : إن هذا النوع من الغيب وهو الغيب الذي له مقدمات تُوصِّل إليه ، له ميلاد يظهر فيه ، فإنْ صادف هذا الميلاد بحثاً من البشر ، وكان البحث سبباً في ظهوره ، وإلا أظهره الله مصادفة ، كما جاءت أغلب الاكتشافات التي تخدم البشرية الآن مصادفة لأن ميلاد الغيب جاء وبحثُك عنه لم يجيء . والمؤمن هو الذي يزداد إيمانه بالغيب حين يستدل بما ظهر له على ما لم يظهر ، ومن العلماء والموهوبين من الناس مَنْ يفسر لك الغيب الذي لم يأتِ أوانه بشيء موجود بالفعل ، ومن ذلك ما رُوِي أن الروم أرسلتْ إلى أمير المؤمنين أنْ يرسل إليهم عالماً يفقههم في أمور الدين ، فأرسل إليهم الشّعْبي فجعلوا يسألونه فيما يَخْفَى عليهم من الدين ، وكان مما عرضوه عليه أن الإنسان حين يُنعَّم في الجنة يأكل ولا يتغوَّط ، فكيف يكون ذلك ؟ فرد الشَّعْبي بما عنده من الإشراقات التنويرية التي يفتح الله بها على مَنْ يشاء . وقال لهم : أرأيتم الجنين في بطن أمه ، إنه يتغذى وينمو دون أنْ يتغوط ، ولو تغوَّط في مشيمته لاحترق ، كذلك الإنسان في الجنة يأكل ولا يتغوَّط لأنه يتغذى بطهي الله له ، فالله يعطيه بقَدَر بحيث لا يبقى شيء يتغوّطه الإنسان ، أمّا نحن فنأكل بطهينا لأنفسنا ، ولا نأكل بقدْر الحاجة ، لذلك نتغوط . قالوا له : زعمتم أنكم تأخذون من الجنة ما تشاءون دون أنْ ينقص منها شيء ، فكيف ذلك ؟ قال : لأن الشيء ينقص بالأخذ منه حين لا يكون له مدد من الغير ، فإنْ كان له مدد لا ينقص ، والمدد في الجنة مِن الله ، فكيف يتأتى النقصان ؟ شيء آخر : لو جئتَ إلى المصباح فأخذتَ مه شعلة ، بل آلاف الشعلات ، أينقص من ضوء المصباح شيء ؟ وهكذا رَدّ الشعبي ، وأُعجب به القوم ، وكتبوا له كتاباً يُوصله إلى أمير المؤمنين ، وكأنهم حسدوا أمير المؤمنين أن تكون مثل هذه العقلية وهذه الموهبة في خدمته ، وكان في الكتاب : عجبتُ لقوم فيهم مثل الشعبي ، كيف يُولُّون غيره ؟ فلما ذهب الشعبي وسلَّمه الكتاب قرأه أمير المؤمنين ، وقال للشعبي : أتدري ما في الكتاب ؟ قال : لا يا أمير المؤمنين . قال : اقرأ ، فقرأ الشعبيُّ العبارة : عجبتُ لقوم فيهم مثل الشعبي كيف يُولُّون غيره ؟ فقال : نعم يا أمير المؤمنين ، لأنه لم يَركَ ، ولو رآك لغيَّر رأيه . والمتأمل في مسألة الإنذار يجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنذارين : عام للعالمين جميعاً ، وهو إنذار بلاغ من الله للجميع المؤمن والكافر ، وهو الذي قال الله فيه : { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِٱلْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً … } [ فاطر : 24 ] فالذين يؤمنون بالله ينتفعون بالإنذار ، وينتفعون بالبشارة ، والذين لا يؤمنون لا ينتفعون من ذلك بشيء . والإنذار الآخر إنذار خاص بمَنْ خَشِي الرحمن بالغيب ، وهو إنذار القبول ، وينتفع به مَنْ خشي الرحمن بالغيب ، فالذين لا يخشوْن ربهم سبق أن أُنذروا ، لكن إنذار بلاغ ، فلم ينتفعوا به لذلك لم يشملهم الإنذار الخاص . وقوله سبحانه : { فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } [ يس : 11 ] قلنا : إن البشارة : إخبار بالخير قبل أوانه ليحفزك إلى أسباب الخير ويُطعمك فيها ، وتلحظ هنا أن المغفرة سبقتْ الأجر ، لماذا ؟ قالوا : لأن الحق - سبحانه وتعالى - قبل أن يُعطيك النعمة يصرف عنك العذاب أولاً لأن التخلية كما قلنا تسبق التحلية ، ثم إن المغفرة دائماً هي جزاء الإيمان بالله ، أما الأجر فجزاء العمل بمنهج الله لذلك قال سبحانه : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] فمَنْ آمن بالله أَمِنَ العذاب وضمن المغفرة ، فإنْ أراد الأجر فعليه بالعمل الصالح . ووصف الأجر نفسه بأنه كريم مع أن الكريم هو المعطي سبحانه ، فالمعنى أن كرم المعطي تعدَّى إلى العطية ، فصارت العطية كريمة ، وكأنها تتلهَّف على صاحبها ، كما يتلهَّف الرجل إلى العطاء لذلك قلنا : إن النعمة التي يُنعِم الله بها على خَلْقه تعشق صاحبها ، وتسعى إليه وتكره مَنْ يحسده عليها ، أو يحقد عليه بسببها . لذلك لا تذهب إلى هذا الحاسد الحاقد ، ولا يناله منها خير أبداً ، وكأن المُنعِم سبحانه يقول : ما دُمْتَ قد كرهتَ النعمة عند غيرك ، فلن تنال منها شيئاً لأنك تُخطِّئ الله في عطائه ، وتعترض على قضائه ، فكيف تأتيك نعمته ؟ لكن إنْ أحببت النعمة عند غيرك تأتِكَ وتطرق هي بابك . وهذه المسألة لها شواهد كثيرة من حياتنا ، أذكر منها أن رجلاً من بلدنا ميت غمر جاءني يشكو قسوة عمه الغني عليه ، وأنه رغم غِنَاه بخيل عليه . ويستعمل الأغراب ، ويتركه هو بدون عمل ، وغير ذلك مما ذكره في شكواه ، وكان معي في هذه الجلسة أهلي ، فقالت له : يا ابني أنت دائماً تشتم عمك وتخوض في حقه ، قال : نعم لأنه لا يسأل عني . فقلت له : أسألك سؤالاً وأستحلفك ألاَّ تكذب ، فلما رأى أنني سأحلفه على المصحف تراجع ، فقلت له : أتحب النعمة عند عمك ؟ قال : لا ، كيف أحبها ، وأنا لا أنال منها شيئاً ، قلتُ : لو أحببتَ النعمة عند عمك ، وتمنيتَ له الخير والمزيد لجاءتك النعمة تطرق بابك ، قال : إذن أرجوك يا مولانا تكلم عمي وتوصيه عليَّ . ويبدو أن الرجل حاول فعلاً إصلاح نفسه ، فأصلح الله ما بينه وبين عمه ، فبعد صلاة الفجر جاءني يطرق الباب ، فلما دخل قال وهو يبكي : يا مولانا أحكي لك حكاية أغرب من الخيال . قلت : ما هي ؟ قال : قبل الفجر بساعة جاء مَنْ يطرق عليَّ الباب بشدة ، فقمت ففتحت الباب ، فإذا به عمي يعاتبنى ويقول : كيف تتركني للأغراب ينهبون مالي وأنت داير على حَلِّ شعرك ، خذ المفاتيح ، ومن الصباح تفتح المحلات ، وتباشر بنفسك مصالحي . فقلت له . نعم ، لأنك أحببتَ النعمة عند عمك وغيَّرتَ ما في نفسك ناحيته . إذن : مَنْ أراد أن تكون نِعَم الناس كلها عنده . فَلْيُحب النعمة عند غيره . ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ … } .