Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 12-12)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى في الآية السابقة { فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } [ يس : 11 ] لها موضع هنا ، فالمغفرة والأجر الكريم في الآخرة ، فناسب أنْ يُحدِّثنا الحق سبحانه عن مشهد من مشاهدها : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ } [ يس : 12 ] . قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ } [ يس : 12 ] هذان ضميران للمتكلم على سبيل التعظيم ، فإنَّا هي نحن ، كما لو قلت : زيد زيد ، فماذا أضافتْ نحن بعد إنَّا ؟ القاعدة في صياغة اللغة أن تمييز الشيء يأتي حين يكون هناك اشتراك ، فإنْ لم يكُنْ اشتراك فلا يأتي التمييز كما لو قُلْتَ لمن يطرق على بابك : مَنْ أنت ؟ يقول : محمد ، وأنت تعرف محمدين كثيرين . فتقول : أيُّ المحمدين أنت ؟ فيقول : محمد أحمد ، وأيضاً أنت تعرف كثيرين بهذا الاسم ، فتقول : محمد أحمد مَنْ ؟ فيقول : محمد أحمد محمود . وعندها يحصل التمييز لوجود الاشتراك في الأولى ، وفي الثانية . فكأن الحق سبحانه لما قال { إِنَّا } [ يس : 12 ] وليس هناك غيره قال : { إِنَّا نَحْنُ } [ يس : 12 ] يعني : كأنه قال إنَّا إنَّا يعني : لا أحدَ سِوَاي ، فليس في هذه المسألة اشتراك . وسبق أنْ أوضحنا أن كلام الله تعالى عن نفسه قد يأتي بصيغة الجمع كما في { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [ القدر : 1 ] . وقال : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] وتلحظ أن الضمير هنا للتعظيم ، وهكذا في كل الآيات التي تتحدث عن فعل من أفعاله تعالى ، أو عن فضل من أفضاله ، ذلك لأن كل فعل من أفعاله تعالى يحتاج إلى عدة صفات : يحتاج إلى علم ، وإلى حكمة ، وإلى قدرة … الخ وكل هذه الصفات كامنة في نحن الدالة على العظمة المتكاملة في الأسماء الحسنى لله تعالى . أما حين يتكلم سبحانه عن الذات الواحدة ، فيأتي بضمير المتكلم المفرد كما في : { إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ } [ طه : 14 ] ولم يقُلْ مثلاً : إننا نحن الله لأن إننا ونحن تدل على الجمع ، والكلام هنا عن الوحدانية ، فلا بُدَّ أنْ يأتي بصيغة المفرد . لذلك يؤكد الحق سبحانه هذه الوحدانية بعدة وسائل للتوكيد في قوله سبحانه : { إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ فَٱعْبُدْنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ } [ طه : 14 ] فلم يَقُلْ سبحانه : فاعبدنا وأقم الصلاة لذكرنا ، إنما { فَٱعْبُدْنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ } [ طه : 14 ] لأن العبادة تكون لله وحده . قم إن عملية البعث وإحياء الموتى لله وحده لا يشاركه فيها أحد . وقال سبحانه { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ } [ يس : 12 ] قبل { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ } [ يس : 12 ] مع أن الكتابة تسبق عملية الإحياء ، الكتابة كانت في الدنيا ، والإحياء في الآخرة ، فلماذا ؟ أولاً : عليك أن تلاحظ أن هذا الكلام ليس كلامك ، إنما كلام الله ، فلا بُدَّ أن تُعمِل عقلك لتفهم عن الله مراده لأن أسلوب الحق - سبحانه وتعالى - يحمل من الكمالات ما يناسب كماله سبحانه ، وكلامك أنت يحمل ما يناسب كمالك . لذلك سبق أن قُلْنا : إن القرآن له تميُّزات عن كل الكتب ، وأن تناوله غير تناول أيِّ كتاب فلا بُدَّ أن يُقرأ على طهارة ، وعلى وضوء ، ولا بُدَّ أن يُراعى في قراءته مخارج الحروف وقواعد التلاوة وآدابها . وفاتنا أن نقول : إنه تميَّز تميُّزاً آخر ، فكما تميز في نُطْقه تميز في كتابته ، فمثلاً كلمة اسم تُكتب بالألف كما في { تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } [ الرحمن : 78 ] ، وكما في { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } [ الأعلى : 1 ] ، لكن في البسملة في أوائل سور القرآن كُتبت بدون الألف هكذا بسم الله الرحمن الرحيم ، لذلك نقول عن القرآن : نكتبه بالإملاء ؟ ! ! لا لأن كتابته توقيف . إذن : ما الحكمة من تقديم { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ } [ يس : 12 ] على { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ } [ يس : 12 ] ؟ قالوا : لأنه ما فائدة الكتابة ؟ الكتابة للأعمال لحصر الحسنات لنثيب عليها ، ولحصر السيئات لنعاقب عليها ، فإذا لم يكُنْ هناك إحياء للموتى وحساب وجزاء ، فما فائدة الكتابة ؟ لذلك قدَّم الإحياء على كتابة الأعمال ، كما أن الإحياء أعظم من الكتابة فناسب أنْ يتقدم عليها . ومعنى : { مَا قَدَّمُواْ } [ يس : 12 ] أي : من الأعمال ، والعمل قد يكون عملاً مثمراً مستمراً بعد موت صاحبه كالصدقة الجارية ، فلو حفر إنسان بئراً مثلاً يشرب منه الناس ويموت يظلّ البئر يسقي الناس ، أو ترك علماً نافعاً ، هذا كله أثر من آثار العمل الذي كُتِب أولاً ، وهو المراد بقوله تعالى : { وَآثَارَهُمْ } [ يس : 12 ] ومن آثار الإنسان ما سنَّه للناس وتركه يتبع من بعده ، سواء أكان حسنة أم سيئة ، فكله مكتوب مُسجَّل في كتاب لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وأحصى آثارها من بعد صاحبها ، فلو كتب إنسان مثلاً وصية ظالمة حرمت صاحب الحق من حقِّه ، والوارث من ميراثه تحمل كل الآثار المترتبة على هذا الظلم لأنه لم يحرم الوارث المباشر فحسب ، إنما حرم أيضاً ذريته التي كانت ستستفيد من هذا الميراث ، لذلك يظل عليه وِزْرها إلى يوم القيامة . كذلك مَنْ سَنَّ للناس قانوناً جائراً ، فعليه وِزْر القانون الجائر الذي حكم هو به ، ثم على مَنْ يحكم بهذا القانون من بعده ، ومثل مسألة القطاع العام مثلاً ، القطاع العام أقامه مَنْ أقامه ، ثم ظلَّتْ آثاره تنهب في الناس إلى أنْ ضَجَّ منه الجميع وطالب الحكام أنفسهم بتعديله . هذه القضية تشرح لنا حديث سيدنا رسول الله : " مَنْ سَنَّ سُنة حسنة فله أجرها وأجر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة ، ومَنْ سَنَّ سنة سيئة فعليه وزرها ووِزْر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة " أرأيتم الرجل العجوز يزرع النخلة وربما لا ينتفع بثمرها ، لكن ينتفع به مَنْ بعده ، فهذه هي آثاره من بعده يكتبها الله له ويُحصيها لحسابه . وقال بعض العلماء في معنى : { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ } [ يس : 12 ] أي : نكتب ما قدموا من النية التي تسبق العمل ، ثم نكتب العمل نفسه ، وهو آثار هذه النية ، فحين تعقد نية الخير في عمل ما تأخذ أجر النية ، فإذا ما عملتَ العمل تأخذ أجر العمل . وهذا يفسر لنا الحديث الشريف : " مَنْ هَمَّ بحسنة فلم يعملها كُتِبت له حسنة ، ومَنْ هَمَّ بها فعملها كُتِبت له عَشْراً " وهذا يرشدنا إلى أهمية عقد النية قبل الشروع في العمل ليثاب عليها الإنسان ، فالمؤمن لا يأتي العمل هكذا عشوائياً . وقوله تعالى : { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ } [ يس : 12 ] هناك فَرْق بين الكتابة والإحصاء ، الكتابة أنْ تكتب الشيء ، لكن لا تضم المكتوبات إلى بعضها ، فتحتاج إلى مَنْ يحصيها ويعدُّها ، فالحق سبحانه يسجل علينا الأعمال كتابة أولاً ، ثم إحصاءً وعَدّاً ، والإحصاء والعَدُّ أيضاً في كتاب مسجل فيه كل شيء { فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ } [ يس : 12 ] والإمام هو ما يُؤتَم به ، والمراد هنا اللوح المحفوظ الذي تأخذ منه الملائكة مهمتها في إدارة الكون . ثم يقول الحق سبحانه : { وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ ٱلقَرْيَةِ … } .