Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 30-30)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذه كلمة تحسُّر كثيراً ما نقولها تحسُّراً على فوات الخير ممن نحب له الخير ، ومعنى { يٰحَسْرَةً } [ يس : 30 ] هذا نداء كأنك تناديها تقول : يا حسرة تعالَىْ ، فهذا أوانكِ . والتحسُّر هنا على العباد الذين كذّبوا رسل الله واستهزأوا بهم ، وهذا أمر يجب أن يتحسَّر عليه كل مؤمن لأن الله تعالى خلقك وخلق لك قبل أنْ يستدعيك للوجود . خلق لك مقوِّمات حياتك المادية ، وصان مادتك بما قدَّر لك في الأرض من أقوات ومن ضروريات وكماليات ، فهل يُعقل أنْ يُعطى كل هذا للبدن ويُترك الروح بلا عطاء ، وهي أهم من البدن ؟ لا بُدَّ إذن أنْ يكون للروح عطاء وغذاء وقيم ، بل إن القيم هي مطلوب الله من عبده لأنك ستكون عابداً لله ، مطيعاً لأوامره ، منتهياً عن نواهيه ، وهذا هو المنهج الذي كلَّفك به في افعل كذا ، ولا تفعل كذا . لذلك تجد أن عطاء المادة ومُقوِّمات حياة البدن مكفولة للجميع : للمؤمن وللكافر ، للطائع وللعاصي لأن الله تعالى هو الذي استدعى الكل إلى الوجود لذلك تكفّل بأرزاقهم ، كما تستدعي أنت مثلاً ضيفاً إلى بيتك ، فتهيىء له مطعمه ومَشْربه ومُقَامه عندك ، وكل الناس أخذوا هذا العطاء . أما عطاء القِيَم والروح ، فبعضهم أخذه وبعضهم تركه لأن عطاء المادة سمح له بشهوة نفسه ، أما القِيَم فقيَّدتْ هذه الشهوة وأمسكتها عن أشياء ، نفسه تريدها ، فلما صَدَّته القيم عن شهوات النفس تركها وتملَّص منها . هذا المنهج القِيمى جاء من مُحِبٍّ لك حريص على مصلحتك ، كما ذكرنا فى الحديث القدسي عن رب العزة : " عبدي ، أنا لك مُحِبّ ، فبحقِّي عليك كُنْ لي مُحِباً " فأنت المنتفع بهذا المنهج لأن الله تعالى خلقك بكل صفات الكمال فيه سبحانه ، فطاعتك لا تزيده كمالاً ، كما أن معصيتك له لا تُنقصه شيئاً من صفاته ، ولا تضره بشيء . لذلك جعل الله من عباده الغني والفقير ، وكان قادراً سبحانه على أنْ يجعلنا جميعاً أغنياءَ لا يحتاج أحد مِنَّا إلى أحد ، والفقير لو تأمل الحكمة في فقره لحمد الله ولَعلم أنه بفقره شرْط في إيمان الغني ، وليس الغني شرطاً في إيمان الفقير ، فالغني يحتاجني قبل أنْ أحتاجه أنا ، الغَنِيّ يسعى ويتعب ويكابد أسباب الرزق والتجارة والمكسب والخسارة ، ثم يأتي إلى بابي ليعطيني حَقَّ الله في ماله وأنا مستريح البال . الغني فُرض عليه الحج ، وإنْ قصَّر فيه يُعاقب ، وإنْ حَجَّ فهو بين قبول أو رَدٍّ ، فإن لم يُقبل حجه ظلتْ الفريضة عليه ؟ وفرْق بين مَنْ فُرِض عليه الركن ، وبين مَنْ لم يُفرض عليه أصلاً . إذن : المتأمل يرى أن الفقير أحظُّ من الغني ، وغير المستطيع أحظُّ من المستطيع . وقد كنا مع بعض الإخوان ، فأردنا أنْ نصلي المغرب في مسجد سيدنا الحسين ، فلما قُمْنا للصلاة ، استوقفنا عم الحاج سيد جلال وقال : انتظروا دقيقتين ، لأنني أرسلت الولد سليمان يفك لي عشرة جنيهات ، فقال احد الحاضرين : معي جنيهات جديدة هَاتِ العشرة جنيهات أفكها لك ، فقال الحاج سيد : لا ، لأن الرجل الذي أنوي أنْ أعطيه لا يأخذ إلا الجنيه الكبير بتاع زمان ، ويرفض هذه العملة الجديدة . فقلت في نفسى : سبحان الله ، هذا الرجل المجذوب الذي يقعد على باب سيدنا الحسين وصِفته كذا وكذا يُسخِّر أكبر رجل اقتصادي في مصر عم سيد جلال ، ومعه الوزير أحمد طعيمة ليوفروا له النقود التي تعجبه . والعجيب أن من هؤلاء مَنْ كان يجلس على باب سيدنا الحسين يضع رِجْلاً على رِجْل ، ويمرُّ عليه موكب الوزير والوزراء فلا ينتبه إليهم ، ولا هو يلقى بالاً إلى الموكب والحراس والدنيا من حوله ، فماذا يعني هذا ؟ يعني أنه مشغول بما هو أعظم من هذا كله ، وأن الله قد تجلَّى عليه بما أفقده الوعي بالدنيا وبما حوله . لذلك رأى أحد منهم موكباً لأحد الوزراء فقال للآخر : والله نحن في لذة ، لو علم بها هؤلاء لحاربونا عليها بالسيف ، أليس هؤلاء سادة ؟ أليسوا أَعِزَّة ؟ إذن : كل مؤمن يرى مصير المكذِّبين ومصارع الكافرين في هذه القصة وفي أشباهها لا بُدَّ أن يقول هذه الكلمة { يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ } [ يس : 30 ] لماذا ؟ لأن من تمام الإيمان أنْ يتحسَّر المؤمن على مَنْ لم يَذُقْ طعم الفضيلة ولذة الطاعة ، فهو مسكين يستحق مَنْ يشفق عليه ويتحسَّر على حاله ، والمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، بل ويحب الخير للإنسانية كلها . ثم يقول الحق سبحانه : { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ … } .