Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 31-32)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يعني : كان يكفي هؤلاء المكذبين أن ينظروا مصير مَنْ كذَّب قبلهم ، وما حاق بهم من العذاب ، وأنهم بعد أنْ أهلكهم الله لم يرجع منهم أحد . وكلمة { يَرَوْاْ } [ يس : 31 ] من الفعل رأى ، وهى تأتي : بصرية أو علمية ، تقول : رأيت المشهد ، فهذه رؤية بصرية ، وتقول : رأيت هذا الرأي يعني علمته ، والرؤية البصرية تقصر معلوماتك على ما اتصلتْ به جارحتك ، أمّا العلمية فتعطيك ما اتصلتْ به جارحتك وجوارح الآخرين ، فالرؤية العلمية إذن أوسع من البصرية . لذلك قال تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ } [ الفيل : 1 ] . ومعلوم أن سيدنا رسول الله وُلِد في عام الفيل ، وربما بعد هذه الحادثة ، إذن : لم يَرَ منها شيئاً رؤية بصرية ، ومع ذلك خاطبه ربه بقوله { أَلَمْ تَرَ } [ الفيل : 1 ] يعني : ألم تعلم ، سواء أكان قومه قصُّوا عليه القصة ، أو أن الله تعالى أخبره بها . والرؤية البصرية للأحداث أوثق وسائل الإدراك لأنه كما يقولون : ليس مع العين أين ، لكن لماذا عدل السياق عن ألم تعلم إلى ألم تر ؟ قالوا : في هذا إشارة من الحق سبحانه لنبيه يقول له : إن إخباري لك بقضية علمية أوثق من رؤيتك بعينك . وقوله تعالى : { أَلَمْ يَرَوْاْ } [ يس : 31 ] تعني أن من هؤلاء القوم مَنْ رأى بالفعل مصارع المكذِّبين ، ومرَّ على ديارهم وهي خاوية على عروشها في أسفارهم ورحلات تجارتهم في الشتاء والصيف ، ومعنى { كَمْ } [ يس : 31 ] تفيد الكثرة ، وأنه أمر فوق الحصر كما تقول لمن ينكر جميلك : كم أحسنتُ إليك وكأنك تقول له : أنا أرتضى حكمك وأستأمنك أنت على الجواب ، وبذلك تحوَّل الإخبار منك إلى أقرار منه هو . ومعنى : { مِّنَ ٱلْقُرُونِ } [ يس : 31 ] القرون جمع قرن ، وهو فترة من الزمن قدَّروها بمائة عام ، والقرن أيضاً يعني الجماعة أو القوم يجمعهم الشيء الواحد مهما طالتْ فترته كالدين الواحد ، أو حكم ملك من الملوك … الخ . فمثلاً نقول : قوم نوح وقد أخذوا من الزمن مساحة ألف عام أو يزيد . وقوله : { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ يس : 31 ] يحتمل أكثر من معنى حسب عَوْد الضمير في أنهم وفي إليهم فالآية تتحدث عن قرون أُهلِكَتْ من قبل وتخاطب مكذِّبين معاصرين ، فإنْ عاد ضمير الغائبين في أنهم إلى القرون التى أهلكت . فالمعنى : أنهم لا يرجعون ، ولم نَرَ أحداً منهم رجع بعد هلاكه ، وإنْ عاد الضمير على المخاطبين الموجودين . فالمعنى : أنكم أيها المخاطبون ، لا ترجعون في نسبكم إلى هؤلاء الذين أهلكهم الله لأن الله تعالى استأصلهم بحيث لم يُبْق منهم أحداً ولا نسلاً . والآية في مجملها تعني أن هلاك الكافرين والمكذبين ليس بدعاً : بل هو سنة مُتَّبعة على مَرِّ الزمان ، فالقرآن يقصُّ علينا ما نزل بعاد وثمود وفرعون : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ * ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ * وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ * ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِي ٱلْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ } [ الفجر : 6 - 12 ] . والله تعالى أبقى الآثار لتدلنا على صدْق ما أخبرنا به سبحانه ، وها نحن نرى أمريكا مثلاً ، وهي سيدة الحضارة الحديثة ، وصاحبة الأسبقية في الابتكار والاختراع وغزو الفضاء ، ومع ذلك يأتون إلى مصر ليشاهدوا آثار الفراعنة التي بُنيت قبل الميلاد بآلاف السنين ، ويتعجبون رغم تقدُّمهم العلمي من كيفية بناء الأهرامات مثلاً . هذه السُّنة - سُنة إهلاك الكافرين - نرى لها شواهد في عصرنا الحديث ، فروسيا التي انتحرت وقتلتْ نفسها بنفسها ، انظر ماذا فعلتْ في الشيشان ، هذه الدولة الإسلامية الصغيرة ، في حين قصَّرنا نحن عن نُصْرتهم ، أو أن نُصْرتنا لهم لم تكُنْ على قَدْر جبروت المعتدين لذلك تدخلت السماء وردَّ الله على أعداء دينه ، وثأر منهم في زلزال سخاليل . وقوله تعالى في الآية بعدها : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ يس : 32 ] جاءت هذه الآية بعد قوله سبحانه { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ يس : 31 ] لتوضح أن عدم الرجعة أي فى الدنيا ، وإلا لو لم يكُنْ لهم رجعة لا في الدنيا ولا في الآخرة ، فالموت راحة بالنسبة لهؤلاء المكذِّبين ، كما قال الفخر الرازي رحمه الله ، إنما المراد : لا يرجعون في الدنيا ، أما في الآخرة فلا بُدَّ من الرجوع للحساب عن كل كبيرة وصغيرة . قوله سبحانه وإنْ إنْ هنا بمعنى ما النافية و لَمَّا بمعنى إلا ، فالمعنى : وما كُلٌّ إلا جميع لدينا مُحضرون . وقد عرفنا من دراستنا لقواعد النحو أن كل وجميع من ألفاظ التوكيد المعنوي للجمع ، ومثلهما أبصع وأكتع وأبتع ، تقول : جاء القوم أجمعون أو أبصعون أو أبتعون ، وجاء القوم كلهم . ونلحظ أن الآية جمعتْ بين لفظي التوكيد كل وجميع ، فلماذا ؟ قالوا : الجمع بينهما ضروري هنا ، لأن لكل منهما مدلولاً ، لا تؤديه الأخرى ، فالكُلية تفيد الشمول للأفراد في الرجوع ، فكلهم يعني كل فرد منهم ، ولا يُشترط أن يكونوا مجتمعين سوياً ، إنما يأتي كُلٌّ بمفرده لتُرى الذلَّة والصَّغَار على المسرفين وعلى الكافرين الذين جعلوا من أنفسهم آلهة مطاعة . أمَّا جميع فيعنى : يأتون مجتمعين . ومعنى { مُحْضَرُونَ } [ يس : 32 ] من الفعل حضر ، وفَرْق بين حضر وأُحْضِر ، حضر ، أي : طواعية بنفسه وبرغبته ، أما أُحْضِر أي : أجبر على الحضور ، وأكْره رغم أنفه . بعد أنْ ذكر الحق سبحانه مسألة البعث في { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ يس : 32 ] أراد سبحانه أنْ يذكر دليلاً على صِدْق هذه القضية لأن البعث من المسائل التي ينكرها كثيرون ، وصدق القائل : @ زَعَمَ المُنجِّمُ وَالطَّبِيبُ كِلاَهُما لاَ تُحْشَرُ الأجْسَادُ قُلْْتُ إليكُمَا إنْ صَحَّ قَوْلكُمَا فلَسْتُ بِخَاسِرٍ أوْ صَحَّ قوْلي فالخَسَارُ عليكُمَا @@ وكما يقول لك الناصح : إنْ ذهبتَ في الطريق الفلاني فاحذر وخُذْ الاحتياط لأن فيه ذئاباً وسباعاً وقطاعَ طرق ، فماذا عليك إنْ أخذتَ الحيطة ، ولم تجد شيئاً ، مما خوَّفك منه ؟ كذلك اعتقادي في البعث إنْ لم يُفدني لا يضرني ، واعتقادكم إنْ لم يضركم لا يُفيدكم . وأقوى شبهة في مسألة بَعْث الأجساد عند الفلاسفة أنهم قالوا : هَبْ أنَّ إنساناً مات ودُفن وتحلَّل جسده وزرعت على قبره شجرة تغذَّت من بقاياه ، ثم أثمرتْ وأكل من ثمارها إنسان آخر ، فوصلت إليه عناصر من الأول ، فحين يكون البعث . كيف تُبْعَثُ هذه العناصر للأول ، أم للآخر ؟ وصاحب هذه الشبهة فَهِمَ أن العناصر حين تتكوَّن لها ذاتية في التكوين ، ولم يفهم أن لها جنسية في التعميم ، كيف ؟ نقول : هب أن إنساناً أصابه مرض أنقص وزنه عشرين كيلو مثلاً ، ثم هدى الله الطبيب إلى عِلَّته ووصف له الدواء شُفِي من مرضه وتغذَّى حتى عاد إلى وزنه الأول ، أين ذهبتْ عناصره التي نقصتْ منه ؟ وهل هي كمية نفس العناصر التي عادتْ إليه بعد أنْ شُفي ؟ إذن : المسألة ليست خصوصية عناصر ، بل كمية عناصر ، والعظمة في أنْ نحصي كمية عناصر كل إنسان ، فلو جمعت كمية العناصر الموجودة عندي أكون محمد الشعراوي لأن عناصر البشر جميعاً واحدة هي الستة عشر عنصراً المعروفة ، والتي تبدأ كما ذكرنا بالأكسوجين ، ثم الكربون ، ثم النتروجين ، ثم الهيدروجين … الخ لكن يختلف الأشخاص باختلاف كميات هذه العناصر عند كل منا ، فأنت عندك كذا أكسوجين ، وكذا كربون ، وكذا نتروجين ، وأنا أعلى منك في الأكسجين ، وأقلّ منك في الكربون ، وهكذا . والحق سبحانه يُعلِّمنا أن المسألة ليست ذاتية عناصر ، وخصوصية عناصر ، إنما قيمة عناصر ، فيقول سبحانه في سورة ق : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ ق : 4 ] يعني : يحفظ هذه الكميات ويُحصيها بمقاديرها ، فإذا أراد سبحانه البعث جمع نسبة كذا ونسبة كذا تعطي فلاناً ، ونسبة كذا إلى نسبة كذا تعطي فلاناً وهكذا ، ولم يقف الأمر عند علم هذه النِّسَب ، بل حفظها الله وسجِّلها في كتاب حفيظ . وفي موضع آخر ، يردُّ الحق سبحانه على منكري البعث يقول لهم : لماذا تكابرون في البعث ، وهو إعادة لشيء كان موجوداً بالفعل وتفَرَّقتْ عناصره ، والأعجب من ذلك أنْ أنشأته من غير موجود ، إذن : فالبعث أهون من الإعادة { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] هذا إنْ جاريناكم في فَهْمكم للأمور ، واتبعنا قوانينكم في التفكير . وسبق أنْ أوضحنا أن العناصر التي خلقها الله في الكون هي هي ، لم تزد شيئاً ، ولم تنقص شيئاً ، فالماء مثلاً هو نفس الماء منذ خلق اللهُ الأرض ، لكنه يدور في دورة معروفة ، فالإنسان مثلاً يشرب طوال حياته كذا طن من الماء ، فهل يحتفظ بها ؟ لا بل تخرج منه في صورة بول وخلافه ، حتى بعد أنْ يموت يتبخّر ما فيه من مائية ، وتمتصها الأرض لتبدأ دورة جديدة للماء . وهكذا عناصر الإنسان تدور هذه الدورة . وهنا يسوق الحق سبحانه لهؤلاء المنكرين هذا الدليل : { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلأَرْضُ ٱلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً … } .