Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 33-35)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وهذا دليل مُشَاهد يراه الجميع ، ولا يستطيع أحد إنكاره ، فنحن نرى الأرض الميتة الجرداء القاحلة ، فإذا ما جاء المطر اخضرَّتْ ودبَّتْ فيها الحياة واهتزَّتْ ورَبَتْ ، وعلى الإنسان أنْ يأخذ مما يُشاهد دليلاً على صِدْق ما غاب عن مشاهدته . وقوله تعالى { وَآيَةٌ لَّهُمُ } [ يس : 33 ] الآية : الشيء العجيب في بابه كما نقول : فلان آية في الكرم أو آية في الحُسْن ، وهذه الآية لهم يعني للكافرين فحسب ، لأن المؤمن لا يحتاج إلى هذه الأدلة المؤمن قال : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ فصلت : 53 ] . وطلب الدليل على الشيء أول دليل على وجوده ، وما أتعبتُ نفسي في البحث عن الدليل إلا لأنني مقتنع بوجود الشيء ، فطلَب الدليل هو عَيْن الدليل ، والمؤمن لا يطلب الدليل إلا ليجادل به مَنْ لا يؤمن ليلفِته إلى آيات الله . وهذه الآية إما أن تأخذها على أنها آية كونية تدل على قدرة الإله المُوجِد سبحانه ، وإمَّا أن تأخذها دليلاً على أننا إذا أنزلنا المطر على الأرض الميتة تهتزّ وتنبت من كل زوج بهيج . والمتأمل في الأرض يجد أنها آية في ذاتها ، ونعمة من أعظم نِعَم الله علينا ، حتى وإنْ كانت صخراً لا تنبت ، فيكفي أنها مَقرُّنا ، فوقها نستقر ، وإليها نأوي ، فما بالك إنْ منحها الله لوناً من الحياة حين تهتزّ بالنبات وتتحول إلى اللون الأخضر البديع . وإحياء الأرض على مراتب ، فإما أنْ يكون الإحياء بنباتات لا تغني في القوت مثل العُشْب والحشائش والنجيل ، ويكفي أن هذا النوع يكسو وجه الأرض جمالاً ونُضْرة ويلبد الرمل ويثبته على وجه الأرض فلا تبعثره الرياح في أعيننا ، فهي إذن مظهر من مظاهر حياة الأرض ، ونعمة من نِعَم الله ، والمرتبة الأخرى أن تنبت الأرض النبات الذي نقتات به ، وهو قسمان : الحبوب التي تمثل الضروريات ، وهي من مقومات حياتك ، وهي أصل القوت وأهمها القمح . وقد أشار الحق سبحانه إلى أهميتها ، فقال سبحانه { وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ } [ الرحمن : 12 ] ليلفت أنظارنا إلى أهمية القشرة التي كنا إلى وقت قريب لا نهتم بها ، ونضعها علفاً للمواشي ، ونأكل الدقيق الفاخر أو العلامة ، وكان هذا طعام الصفوة والأغنياء إلى أنْ تنبهنا إلى أهمية الردة ، فأصبحنا نُفضِّلها على الدقيق الفاخر ، بدليل أن الخبز المكوَّن من الردة الآن أغلى من الخبز الأبيض ، ثم رأينا الذين أسرفوا على أنفسهم في أكل الخبز الأبيض الفاخر لا يأكلون إلا الردة ، وبأمر الطبيب . لذلك رُوِي أن سيدنا سليمان عليه السلام ، وقد أعطاه الله مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده كان لا يأكل إلا الخشكار أي : الدقيق الخشن أما الدقيق العلامة فللخدم . ثم الفواكه وتُعَدُّ من التَّرفيات التي نتفكَّه بها . لذلك يقول سبحانه : { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلأَرْضُ ٱلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا . . } [ يس : 33 ] هذه هي المرتبة الأولى ، ثم { وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } [ يس : 33 ] وهذه هي الضروريات . ثم { وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ … } [ يس : 34 ] . وخَصَّ النخيل والأعناب لأن البلح والعنب أهم الفواكه ، وأقربها من ضروريات القُوت ، فهما قوت للبعض ، وفاكهة للبعض لذلك قال شوقي رحمه الله عن البلح : @ طَعَام الفَقيرِ وحَلْوى الغَنِيّ وزَادُ المسَافِر والمغْتَرِبْ @@ ونقف هنا عند عظمة الأداء القرآني لأن الكلامَ كلامُ رب ، وعلينا نحن أنْ نجلي وجوه العظمة فيه ، وقد لاحظ العلماء جزاهم الله عنَّا خيراً أن القرآن لما تكلم عن الفاكهة قال { مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } [ يس : 34 ] فذكر الشجرة في النخيل ، وذكر الثمرة في الأعناب ، ولم يذكر ثمرة النخيل وهي التمر ، ولم يذكر شجرة العنب وهي الكَرْم . ولما بحث العلماء هذه المسألة وجدوا أن القرآن ذكر النخيل لأنها شجرة كثيرة الفوائد ، مستمرة العطاء ، لا يقتصر نفعها على ثمرها ، بل كل ما فيها نافع مفيد ، ويكفي أنْ تعرف أن النخلة لا يُرْمَى منها شيء أبداً ، ولكل جزء فيها استعمال ومهمة : الجذع والجريد والخوص ، حتى الليف يحشون به أفخم أنواع الصالونات ، أما شجرة العنب فبعد أنْ تأخذ ثمرها لا يبقى فيها إلا مجموعة من العيدان الملتوية التي لا تغني شيئاً . ثم يقول سبحانه { وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ ٱلْعُيُونِ } [ يس : 34 ] لأن الأرض المنزرعة التي تعطينا هذا العطاء إما أنْ تُروى بالأنهار أو بالمطر ، فإذا لم يتوفر لها هذان المصدران تُرْوَى بعيون وهي المياه الجوفية التي تتسرَّب من ماء المطر في باطن الأرض ، كما قاله سبحانه : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ } [ الزمر : 21 ] . وهذه العيون مظهر من مظاهر قدرة الله ، فمنها ما نبحث عنه ونحفره ، ومنها ما ينساب بنفسه طبيعياً بقدرة الله ، وكأن ربك عز وجل يُطمئنك إلى عطائه ، فإنْ كنتَ في أرض غير ممطرة ولستَ في وادٍ تجري فيه الأنهار فاطمئن ، ففي باطن عيون تتفجَّر بالماء العَذْب الصالح للشرب ولِسقْى الأرض . وقد تنبَّهنا مؤخراً إلى ضرورة زراعة الصحراء واستصلاحها ، وأعاننا على ذلك ما فيها من آبار ومياه جوفية ، ما علينا إلا أنْ نبحثَ عنها . ثم يُبيِّن الحق سبحانه العلة في تفجير العيون ، فيقول سبحانه : { لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } [ يس : 35 ] قوله تعالى : { مِن ثَمَرِهِ } [ يس : 35 ] قالوا : من ثمره . أي : الحبوب والبلح والعنب وغيرها ، أو من ثمر تفجير العيون ، قال البعض : ينبغي أن ننسب الثمرة إلى الأصل ، فيكون المعنى : من ثمر القدرة في كُنْ ، وليس المراد الثمرة القريبة . فكأن الحق سبحانه يريد أنْ يخلعك من الفتنة بالأسباب ، ويلفتك إلى المسبِّب الأعلى الأول لذلك أمرنا حين يعزُّ الماء ولا تسعفنا الأسباب أن نلجأ إلى المسبِّب سبحانه بصلاة الاستسقاء لأن المسبِّب سبحانه هو المرجع النهائي لهذه المسألة ، وأنت حين تستسقي لا تستسقي بنفسك ، إنما بأضعف منك ، وإنْ كنتَ عاصياً كفوراً تستسقي بمَنْ لم يرتكب معصية . لذلك أمرنا أنْ نأخذ معنا في صلاة الاستسقاء النساء والأطفال والمواشي ، وكأننا نتوسل إلى الله بضعفهم وطهارتهم من المعاصي ، وكأننا نقول لربنا : يا رب إن كنا قد عصيناك ولا نستحق السُّقيا فاسْقِنَا لأجل هؤلاء . بل وأمرنا في الاستسقاء أن نخرج إليه ونحن مخالفون للأَرْدِية مغيِّرون لِسَمتها ، إظهاراً للذلة والانكسار لله سبحانه وتعالى . والآن ، بعد ما حدث من تطور في استخدام الماء حتى صِرْنَا نستقبله في خزانات ومواسير بَعُدَتْ الصلة بين واهب الماء والمنتفع به ، فحين تنقطع المياه لا تخطر على بالك صلاة الاستسقاء ، ولا تتذكر واهب الماء ، إنما تفكر في سبب انقطاع المياه فتسأل عن المواسير وعن الموتور … الخ . إذن : الأسباب نفسها أبعدتْنَا عن المسبِّب سبحانه . وقوله سبحانه { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } [ يس : 35 ] استدراك يراعي دور الإنسان وعمله ، فمن الثمار ما يُؤْكَل مباشرة مثل الخوخ والبرتقال والخيار ، ومن الثمار ما يحتاج إلى علاج وإعداد ليُؤكل ، كما نفعل مثلاً في الكوسة وغيرها مما يحتاج إلى إعداد ، فكأن الحق سبحانه يُقدِّر لك دورك ، ويعطيك حقك ، ويذكر لك عملك مهما كان يسيراً . وهذه المسألة جاءت بوضوح في قوله سبحانه : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } [ الواقعة : 63 - 64 ] فربُّك عز وجل يُقدِّر عملك في حرث الأرض وإعدادها للزراعة ، وهذا دورك فيها ، أما مسألة الإنبات فهي لله وحده ، لا دخْلَ لك فيها . كذلك احتَرَم ربُّك عملَك في إيجادك شيئاً كان معدوماً وسمَّاك خالقاً ، لأنك أوجدتَ معدوماً ، وإنْ كان هذا الذي أوجدته من موجود معلوم ، فقال سبحانه { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [ المؤمنون : 14 ] . فإذا كان ربك قد احترم خلقك لشيء كان معدوماً ، فينبغي عليك أنْ تحترم أحسنيته في الخَلْق ، فأنت خالق وربّك أحسن الخالقين ، أنت تستطيع أنْ تعالج الرمل مثلاً ، وتصنع منه كوباً ، هذا نوع من الخَلْق لكن يظل الكوب كما هو ، ويثبت على الحالة التي أوجد عليها ، فلا تعطي أنت الكوب صفة الحياة ، أما خَلْق الله فيعطيه الله صفةَ الحياة ، فينمو ويكبر ويتناسل . الخ . وقوله سبحانه : { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } [ يس : 35 ] جاء بعد ذكر هذه النِّعَم السابقة ، والتي تستوجب شكر الله عليها ، لكن لم يَأْتِ هُنا أمر بالشكر ولم يَأتِ بأسلوب خبري ، إنما جاء هكذا { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } [ يس : 35 ] بصيغة الاستفهام ، وكأن الله تعالى يقول لنا : أجيبوا أنتم ، فقد استأمنتُكم على الجواب ، وقد علم سبحانه أن الجواب لا يمكن أنْ يكون إلا الإقرار بالشكر على النعمة . ثم يقول سبحانه : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ … } .