Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 63-65)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هنا أيضاً اعتبر التخويفَ من جهنم وعداً لا وعيداً ، وسبق أنْ عرفنا أن الوعد في الخير ، والوعيد في الشر ، ومن ذلك قول الشاعر : @ يَا دَهْرُ يَا مُنْجِزَ إيعَادِهِ وَمُخْلِفَ المأْمُولِ مِنْ وَعْدِهِ @@ وقُلْنا : سَمَّى ذلك وعداً لأن التحذير من الشر قبل الوقوع فيه يُعَدُّ خيراً لأنك تستطيع تدارك الأمر ، وتصحيح الخطأ . وقوله سبحانه : { ٱصْلَوْهَا } [ يس : 64 ] ادخلوها ، واصْطَلُوا بنارها ، واحترقوا بلظَاهَا ، { ٱلْيَوْمَ } [ يس : 64 ] أي : يوم الجزاء اليوم القائم الذي نحن فيه ، أما ما قبله فقد مضى ومضتْ معه اللذات التي جاءت بكم إلى النار ، ذهبتْ اللذات وبقيتْ تبعتها ، ولم يعُد أمامكم إلا النار تحترقون فيها { بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } [ يس : 64 ] يعني : هذه النار ليست ظُلْماً ، إنما جزاء كفركم بنعمة الله ، وهذا تقريع لهم لأنهم لم يعرفوا للحق سبحانه نعمه عليهم ، ولو عرفوا لله هذه النعمة ما كفروا بها . لذلك حين تُحسِن إلى إنسان ، فيقابل إحسانك بالإساءة يخجل أن يقابلك ، ويستطيع أنْ يتحمل منك أيَّ عقاب ، إلا أن تواجهه أنت ، لماذا ؟ لأن حياء المسيء من المحسن أشدُّ عليه من العذاب ، فكأن الله تعالى يقول لهؤلاء الكفرة بنعمه : استحيوا من الله ، لأنه أنعم عليكم فكفرتم بنعمه ، ولو أن عندكم إحساساً لكان تذكيركم بكفركم أشدَّ عليكم من هذه النار التي تَصْلوْنها . ثم يقول سبحانه واصفاً حالهم ، والعياذ بالله : { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ يس : 65 ] . قوله : { ٱلْيَوْمَ } [ يس : 65 ] أي : يوم القيامة والجزاء { نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ } [ يس : 65 ] . نضرب عليها فلا يستطيعون الكلام ، فالأفواه مَنَاط الكلام ، وقبل أن يختم الله على أفواههم في الآخرة ختم على قلوبهم في الدنيا ، بالأمس ختم اللهُ على القلوب فلا يدخلها إيمان ولا يخرج منها كفر ، واليوم ختم الله على الأفواه ومنعهم الكلام ، حتى لا يعتذرون ولا يستغفرون . فالمقام هنا مقام حساب لا عمل ، فلا جدوى من الاستغفار ، ولا فائدة من الاعتذار ، بل انتهى أوان الكلام والمنطق ، ولم يعُد للسان دَوْر ، اليوم تُغْلَق الأفواه وتُقيَّد الألسنة لتنطق الجوارح . وتأمل بعدها : { وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ يس : 65 ] القياس كان يقتضي أنْ يقول الحق سبحانه { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ } [ يس : 65 ] . ومثلها : ونُنْطِق أيديهم ونُشهِد أرجلهم ، لكن السياق القرآني هنا مختلف ، فبعد أنْ يختمَ اللهُ على أفواههم تُكلمنا أيديهم تطوعاً لا أمراً ، وتشهد أرجلهم تطوعاً لا أمراً ، فلم نقل للأيدي : تكلمي ، ولم نقل للأرجل : اشهدي . وإنما تطوعتْ هذه الجوارح بالشهادة ، مع أنها هي نفس الجوارح التي بُوشِرت بها المعاصي والذنوب في الدنيا ، ومع ذلك تشهد لا على نفسها ، إنما على النفس الواعية التي أخضع اللهُ لها الجوارح ، وأمرها أن تسير وِفْق مرادها ، ورهْنَ إشارتها في الدنيا . أما ونحن الآن في الآخرة ، وقد تحررتْ الجوارحُ من تبعيتها للنفس الواعية ، وأصبح الملْكُ كله والتفويض كله لله تعالى ، فالآن تتكلم الجوارحُ بما تريد ، وتشهد بما كان أمام الرب الأعلى سبحانه . وسبق أنْ مثَّلْنَا هذه المسألة بالكتيبة من الجيش يرسلها القائد الأعلى ، وعلى الكتيبة أن تطيع أوامر قائدها المباشر ، ولو كانت الأوامر خاطئة ، إلى أن تعود إلى الأعلى ، فتشكو له ما كان من القائد المباشر ، هكذا الجوارح يوم القيامة . فإنْ قلتَ : فلماذا أسند التكلم للأيدي ، والشهادة للأرجل ؟ نقول : لأن جمهرة الأعمال عادة تُسند إلى الأيدي ، حتى لو كان المشي وسيلة العمل ، وطالما أن الأيدي تتكلم ، فكأنها أصبحتْ مُدَّعية تحتاج إلى شاهد فتشهد الأرجل . أما مسألة : كيف تنطق الأيدي ، فالذي أنطق اللسان وهو قطعة من لحم ودم قادر على أنْ يُنْطِق باقي الأعضاء الأيدي أو غيرها ، وما دام الفعلُ لله تعالى فلا داعيَ للسؤال عن الكيفية ، ثم إن الأيدي بها من الأعصاب أكثر مما بأعضاء الكلام . وقوله تعالى : { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ يس : 65 ] ولم يقُلْ : بما كانوا يعملون ، لأن هناك فرقاً بين إنسان يُقبل على المعصية لكنه لا يفرح بها ، بل يندم عليها ويعاقب نفسه على ارتكابها ، وآخر يعتبر ارتكاب المعصية مكسباً فيفرح بها ، ويتحدث عنها ويتباهى بارتكابها . ومن حيث التحقيق اللغوي لمادة كسب ، فإن هذا الفعل يأتي مجرداً كسب ، ويدل على الربح في البيع والشراء ، وعلى العمل يأتي من الإنسان طبيعياً ، لا تكلُّفَ فيه ولا افتعال ، وغالباً ما يُستخدم في الخير . ويأتي هذا الفعل مزيداً بالهمزة والتاء اكتسب ، ويدل على الافتعال والتكلّف ، وتُستخدم هذه الصيغة في الإثم ، وأوضحنا هذه المسألة فقلنا : إن الإنسان حين يفعل الخير يأتي الفعلُ منه طبيعياً تلقائياً ، أما الشر فيتلصص له ويحتال ، ذلك لأن الخير هَيِّن ليِّن سهل مقبول ، أما الإثم فشَاقٌّ مخجل . أنت حين تجلس مثلاً بين أهلك ترى زوجك أو بناتك أو عمتك أو خالتك … الخ وفيهن الجميلات والحسان ، وأنت تنظر إليهن جميعاً دون تكلُّف ودون خجل ، لأنه أمر طبيعي ، أنا مع غير المحارم ومع مَنْ يحرم عليك النظر إليهن ، فإنك تسرق النظرة وتحتال لها ، حتى لا ينكشف أمرك ، ولا يطلع أحد على نقيصتك . فإذا جاءت كسب محل اكتسب ، فاعلم أن صاحب المعصية ومرتكب الإثم قد تعوَّد عليه وألِفه ، حتى أنه يفعله كأمر طبيعي فلا يخفيه ولا يستحي منه ، بل يجاهر به ، فَعَدّ الاكتساب في حقه كسباً ، كما في هذه الآية : { وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ يس : 65 ] .