Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 69-70)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
نلحظ هنا نقلة في سياق هذه الآيات ، فما العلاقة التي نقلتنا من الكلام عن الآخرة وجزاء الكافرين المجرمين إلى الحديث عن سيدنا رسول الله ؟ نعرف أن المقاصد الأصلية للتديُّن هي أولاً : توحيد الله ، ومعنى التوحيد لله تعالى أن تشهد أنه واحد أحد ، ولكل من الوصفين معنى لا يؤديه الآخر ، فلكل منهما ما صدق ، فمعنى واحد أي : من حيث الوجود هو واحد لا فرد آخر معه . أمَّا أحد فيعني أنه في ذاته سبحانه ليس مُكوَّناً من أجزاء ، فالإله أحَد في ذاته ، لم تجتمع عدة أشياء في تكوينه ، ذاته لا ترتكن إلى شيء ، فمثلاً حين تأخذ الشيء الواحد كالكرسي مثلاً ، الكرسي في وجوده كرسي واحد ، لكنه ليس واحداً ، لأنه مُكوَّن من عدة أشياء ، مُكوَّن من الخشب والمسامير والغِراء و البوية … الخ فهو واحد ليس أحداً ، أما الحق سبحانه فلاَ بُدَّ أنْ يُوصفَ بالوصفين معاً ، فنقول : هو سبحانه واحد أحد لأن لكل منهما معنىً . ومسألة الواحدية مسألة عملية عقلية لأن الله تعالى أعلن أنه الإله الحق ، وأنه واحد لا شريك له ، وأنه هو الخالق وحده ، وهو الرازق ، وهو الذي يستحق وحده أن يُعبدَ ، هذه دعوى لم يَقُمْ لها معارض ، والدعوى تثبت لصاحبها إلى أنْ يدَّعيها آخر ، ونحن لم نَرَ أحداً ادَّعى الخَلْق لنفسه . فلو كان معه سبحانه إله آخر أو آلهة أخرى فأين هم ؟ لماذا لم يطالبوا بحقهم في هذه المسألة ؟ أو أنهم سكتوا عنها أو لم يَدْرُوا بها ؟ وعلى أيِّ حال من هذه الأحوال لا يصلحون لأَنْ يكونوا آلهة لذلك يناقش القرآنُ هذه المسألة بكلام منطقي : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] . إذن : فالتوحيد هو الأساس الأصيل للدين ، لكن لا أعرف بالعقل مطلوبَ الإله مني ، لا بُدَّ أن يُبعَث لي رسول يخاطبني بمطلوب ربي مني ، إذن : لا بُدَّ من رسول . وهذا هو المقصد الثاني للدين . وخطاب الحق للخَلْق طاقة كمال مطلق والبشر نقص مطلق لذلك لا بُدَّ في هذا الخطاب من واسطة تستطيع التلقِّي عن هذا الكمال المطلق ، وتستطيع التبليغ إلى الأقل كمالاً ، وهكذا تتدرج المسألة ، فالله تعالى يخاطب الملائكة ، والملائكة تخاطب الرسل ، والرسل يخاطبون الناس . فلا بُدَّ من الرسالة وهي المقصد الثاني للدين ، والرسول هو الواسطة بين الخالق والخَلْق ، والرسول ليس مُبلِّغاً فحسب ، إنما مُبلِّغ وأُسْوة سلوك وتطبيق ، كما قال سبحانه : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] ولو كان الرسول مَلَكاً لما تحققتْ به الأسوة ، ولا يمكن أنْ أُحمل على مطلوب الرسول إلا إذا كان الرسول من جنسي . لذلك يقول تعالى موضحاً هذه القضية : { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 94 ] فيأتي الرد قُلْ أي رداً عليهم : { لَوْ كَانَ فِي ٱلأَرْضِ مَلاۤئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] . إذن : كيف نُنزل مَلَكاً لبشر ؟ لو نزل المَلكُ على طبيعته النورانية ما رآه البشر ، ولا بُدَّ أن يأتيهم في صورة بشرية ، لظلَّتْ الشبهة قائمة : { وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [ الأنعام : 9 ] . فلا بد - إذن - من وسائط هي أشبه ما تكون بـ الترانس في عالم الكهرباء ، وهو أداة تأخذ من القوى وتعطى للضعيف دون أن تحرقه . العنصر الثالث للدين هو الحشر لأن الرسالة جاءتْ لتحمل المنهج : افعل كذا ولا تفعل كذا ، هذا المنهج من الناس مَنْ سيسير عليه فيفعل ما أمر به وينتهي عما نُهي عنه ، ومنهم مَنْ سينصرف عنه بل ويخالفه ، إذن : لا بُدَّ من مَرَدٍّ يُثَاب فيه المطيع ، ويُعاقَب فيه المخالف ، هذا المردُّ هو الحشر . فالحق سبحانه تكلم عن التوحيد في قوله : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ ٱعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [ يس : 60 - 61 ] وتكلم عن الحشر في قوله سبحانه : { هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * ٱصْلَوْهَا ٱلْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } [ يس : 63 - 64 ] . والآن يتكلم عن العنصر الثاني وهو الرسالة فنقول عن رسوله صلى الله عليه وسلم : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ } [ يس : 69 ] أي : نحن لا المجتمع ولا البيئة التي يعيش فيها لذلك كانت الأمية في رسول الله شرفاً لأنه لو لم يكُنْ أمياً لكانت ثقافته من الخَلْق . أمَّا أميته فتعني أنه أخذ ثقافته وعلمه من الله لذلك كان من شرفه صلى الله عليه وسلم أن يكونَ أمياً ، ومن شرف أمته أنْ تكون أمية ، لأنها لو كانت أمة متعلمة لقيل إن ما حدث في الجزيرة العربية ما هو إلا قفزة حضارية ، كما قالوا : لَمّا نصرنا الله في حرب رمضان ورأينا بأعيننا تأييد الله لنا ، ومع ذلك قالوا : نَصْر حضاري . فالحق سبحانه يقرر هذه الحقيقة : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ } [ يس : 69 ] لَكُنَّا علمناه غير الشعر ، فرسول الله مُعلَّم نعم ، لكن مُعلَّم مِنْ مَنْ ؟ من ربه ، لم يأخذ شيئاً من البشر . وقد يُظَنُّ أن الله لم يُعلِّمه الشعر لأن الشعر يحتاج إلى ثقافة لغوية وعِلْم بالأوزان والقوافي ، ولا بُدَّ له من الحِسِّ المرهف والأذن الموسيقية إلى آخر هذه الأدوات التي يحتاجها الشاعر وربما لم تتوفر هذه الأدوات لرسول الله كما أنها لم تتوفر لكثيرين غيره . فيرد الله تعالى هذا الظن ، ويقول : { وَمَا يَنبَغِي لَهُ } [ يس : 69 ] يعني : لم نُعلمه الشعر لنقصٍ في إمكانياته ، فلو أراد أنْ يقول شعراً لَقَالَ الشعر على أحسن مَا يُقَال ، لكن لا ينبغي له ذلك لأن مهمة الرسول خلاف مهمة الشاعر ، فأغلب الشعر في الكذب وفي الشر ، فإذا دخل في الخير ضَعُفَ ولاَنَ ، ذلك لأن طبيعة الشعر أن ينطلق ويُحلِّق في الخيال ، وأن يقول الشاعر ما يحلو له أياً كانت غايته لذلك قالوا : أعذب الشعر أكذبه . وكثيراً ما نرى الشعراء أصحاب القيم والأخرق يصعب عليهم الجمع بين مطلوب الإيمان منهم ، وما تدعوهم إليه مَلَكة الشعر عندهم ، فلا يملكون إلا أنْ يحصروا أنفسهم في شعر القيم والأخلاق والفضائل ، ويبتعدوا عن شعر الهجاء والغزل . والشاعر المهجري الذي عُرِف عنه التقوى والصلاح ، فحاول أنْ يجمع بين هذه التقوى والموهبة الشعرية لديه فقال : @ مَوْلاَي إنِّي قَدْ عَصَيْتُكَ عَامِداً لأَرَاكَ أَجْمَلَ مَا تكُونُ غَفُوراً وَلَقَدْ جَنَيْتُ مِنَ الذُّنُوبِ كِبَارَهَا ضَنّاً بِعَفْوِكَ أنْ يكُونَ صَغِيراً @@ فأجاد في الأولى ، ولم يُوفَّق في الثانية . وسيدنا حسان بن ثابت ، كان شاعراً مجيداً في الجاهلية ، فلما أسلم قالوا له : لاَنَ شعرك يا أبا الحسام . فقال : الشعر نكِد يَقْوى في الشر ، فإذا دخل في الخير ضعُفَ ولاَنَ . فقوله تعالى : { وَمَا يَنبَغِي لَهُ } [ يس : 69 ] دفع عن رسول الله الاتهام بأن طبيعته ليست شاعرية ، أو أنه غير مُرْهف الحس ، وأن أذنه غير موسيقية ، إلى آخر هذا الهراء ، وكيف يُتَّهم بهذا مَنْ علَّمه الله ، وباشرتْ أذنه الوحي ؟ أما القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنشد الشعر ، نعم أنشد رسول الله الشعر ، لكن لم ينشده مستقيماً ، بل خالف فيه حتى لا يظلَّ البيتُ على استقامة وزنه ، فلما أنشد : @ سَتُبْدِي لَكَ الأيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلاً وَيأْتِيكَ مَنْ لَم تُزوِّدِ بِالأَخْبَارِ @@ وورد أنه صلى الله عليه وسلم قال : " أصدق كلمة قالها لبيد : @ أَلاَ كُلُّ شيءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِلُ وَكُلُّ نَعيمٍ زائِلٌ لاَ مَحَالَةَ @@ والصواب : @ أَلاَ كُلُّ شيءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِلٌ وَكُلُّ نَعيمٍ لاَ مَحَالَةَ زَائِلُ @@ إذن : كان سيدنا رسول الله يكسر وزن البيْت ، حتى لا يقال إنه أنشد الشعر ، مع أن الله تعالى قال : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ } [ يس : 69 ] لكن لم يَنْه رسول الله عن إنشاده ، فكأن رسول الله يحتاط للأمر ، فيقول ولا أنشده أيضاً ، ليكون بعيداً عنه كلية . هذا عن الإنشاد ، أما عن قوله الشعر بنفسه ، فيرى البعض أنه صلى الله عليه وسلم قال شعراً مثل قوله في غزوة حنين : @ أَنَا النَّبيُّ لاَ كَذِب أَنَا ابْنُ عَبْدِ المطَّلِبِِ @@ نعم جاء هذا القول من رسول الله موافقاً لوزن شعريٍّ يسمونه الرَّجز ، فهو قول صادف وزناً شعرياً وفرْق بين نَظْم الكلام وإخضاعه للوزن والقافية ، وبين كلام يصادف وزناً دون قصد ، وإلا ففي القرآن نفسه آيات صادفت وزناً شعرياً ، فهل نقول إنها شعر ؟ واقرأ مثلاً : { لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ … } [ آل عمران : 92 ] . { فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } [ يوسف : 32 ] . { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [ الحجر : 49 ] . هذه وغيرها آيات صادفت وزناً شعرياً ، لكنها لا تُسمَّى شعراً لأن الشعر قول موزون مُقفَّى قصداً . الحق سبحانه حكى عن رسوله أن الكفار اتهموه فقالوا : ساحر وشاعر وقالوا : كاهن ، لكن القرآن رَدَّ عليهم في مسألة الشعر ، ونفى أن يقول الرسول شعراً : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ } [ يس : 69 ] ولم يَنْفِ عنه السحر ولا الكهانة ، لماذا ؟ قالوا : لأن مهمة رسول الله بلاغ القرآن عن الله ، والقرآن من جنس الأساليب الراقية ، وأقرب شيء إليه الشعر لذلك نفاه القرآن ، أما السحر فطلاسم وكلام لا معنى له ، فلم يَقُلْ : وما علمناه السحر . ولو أن لهذه الكلمة مدلولاً لكان الرد عليها سهلاً ، فإذا كان محمداً ساحراً سحر المؤمنين به ، فلماذا لم يسحركم أنتم أيضاً ، إذن : تكذيبكم له وكفركم به أدَلُّ شيء على أنه ليس ساحراً ، وهل للمسحور إرادة مع الساحر . وفي قولهم كاهن ردٌّ عليهم : { وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ } [ الحاقة : 42 ] لأن قَوْلَ الكاهن كلام مسجوع سَجْعاً بارداً ، والقرآن خلاف هذا كله ، ثم إنكم أهل فصاحة وبيان ، وأنتم أعلم الناس بالأساليب والتمييز بينها ، فهل يخفى عليكم أنْ تفرقوا بين القرآن وغيره من الكلام وأنتم أمة كلام ، وتجعلون للكلمة أسواقاً ومعارض ؟ ثم يُبيِّن الحق سبحانه العلة في عدم قول الرسول للشعر ، فيقول سبحانه : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } [ يس : 69 ] إن هنا بمعنى ما النافية . يعني : ما هذا القرآن إلا تذكير لمن يعقل وقرآن مبين . أي : بيِّن واضح يُتلَى ، وقد يكون له نَغَم ألذّ في أذن الوَرع من الشعر ، لذلك بعض الناس يسمع القرآن فتأخذه نشوة وإعجاب ، ولو سألته تجده لا يعرف ما يحدث له ، لماذا ؟ قالوا : لأن الذي يتكلم الله ، والذي يسمع خلق الله ، فالله تعالى يتكلم بالكلام الذي يؤثر ويستميل المخلوق لله الذي ما يزال على فطرته التي فطر الناس عليها ، فإنْ خرج عن هذه الفطرة لم يؤثر فيه القرآن هذا التأثير ، ذلك لأن القرآن واحد أمَّا الفطرة المستقبلة فتختلف . والحق سبحانه يشرح لنا هذه المسألة في قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً } [ محمد : 16 ] فأمره الله أنْ يردّ عليهم : { قُلْ هُوَ } [ فصلت : 44 ] أي : القرآن { لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } [ فصلت : 44 ] . ذلك لأن فاعلَ الشيء غير قابله ، وسبق أن مثَّلْنا لذلك بكوب الشاي الساخن تنفخ فيه ليبرد ، وفي الشتاء تنفخ في يديك لتُدفئها ، فالنفخة واحدة ، لكن المستقبل لها مختلف ، كذلك حال الناس في تلقِّى القرآن ، فمَنْ تلقى كلام الله بفطرة سليمة فهمه وتأثر به ، ومَنْ تلقى كلام الله وهو منشغل عنه أُغْلِق عليه ، فلم يفهم عن الله ولم يتأثر بكلامه . لذلك نرى بعض الناس من غير العرب لا ينطق بكلمة عربية ، لكنه ساعة يسمع أو يقرأ كلام الله تجد له انفعالَ مواجيد ، وتدمع عيناه ، لماذا ؟ لا بد أن شيئاً في تكوينه تأثر بهذا الأسلوب . وإذا كان الحق سبحانه أوحى إلى الجماد فانفعل لكلامه ، وأوحى إلى الحيوان ففهم عنه ، فمن باب أَوْلَى يكلم الإنسان العاقل بكلام يصادف طبيعته ويؤثر فيه ، فيتأثر وينفعل . ثم يقول سبحانه مبيِّناً مهمة هذا الذِّكْر وهذا القرآن المبين : { لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً } [ يس : 70 ] نعم ، سماهم أحياء وخطابك لهم دليل على أنهم أحياء ، لكن أحياء الحياة المادية التي تنتهي بالموت ، إنما هناك حياة أخرى بالعقل والفكر وبالقيم الروحية ، وهذه لا يظهر أثرها إلا بعد الموت . والناس جميعاً يشتركون في الحياة المادية لذلك يُسمَّى العنصر الذي يدخل على الحياة المادية لتأخذ طابع الحياة الروحية الروح ، فالروح روح من أمره سبحانه ، وبعد أنْ يعطيه الروح التي تحيا بها المادة يعطيه الروح التي تحيا بها القيم ، وحياة القيم قُلْنا : إنها ترتقي بك لتعطيك قيمة في الآخرة ، وقد تعطيك في الدنيا راحة البال واستقامة واستقراراً ، لكن تظل الحياة الحقيقية في الآخرة . فإذا شاء الله أُعْطِي الإنسانُ حياةً موصولة كما أعطي سيدنا يحيى ، فلما دعا سيدنا زكريا ربه { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآءِى وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً } [ مريم : 4 - 6 ] . فأجابه الله : { يٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } [ مريم : 7 ] . إذن : بشَّره الله بالغلام ، وسمَّاه اسماً يدل على أنه سيعطيه حياة موصولة فحين تسمى ولدك ذكي مثلاً تفاؤلاً أن يكون ذكياً ، أو نبيل تفاؤلاً أن يكون نبيلاً ، لكن أتملك أنْ تحقق رغبتك هذه . لذلك قال الشاعر : @ وَسَمَّيْتُهُ يَحْيَى لِيحيَاْ فَلَمْ يَكُنْ لِرَدِّ قَضَاءِ اللهِ فِيهِ سَبِيلُ @@ نعم ، أنت سميتَ ، لكنك لا تهب الحياة ، واهبُ الحياة هو الله ، فإذا سَمَّى الله يحيى فلا بُدَّ أن يحيا حياة موصولة لذلك مات سيدنا يحيى شهيداً ، لتتصل حياته الدنيا بحياة الآخرة ، وليحقق فيه ما أراده الله . ومعنى : { وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [ يس : 70 ] أي : يستحق لهم العذاب لأنهم لم ينتفعوا بالإنذار . ثم يتحدث الحق سبحانه بعد ذلك عن بعض آياته في الكون : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ … } .