Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 7-7)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الحق سبحانه وتعالى سطَّر أزلاً كلَّ ما يكون من مُسْتقبِلي أيِّ دعوة دينية المؤمنين بها والكافرين ، لكنه سبحانه ترك للناس الاختيار ، وكَوْنه تعالى يسجل ما سيحدث من الناس ، ثم يأتي الحدث منهم وفْق ما سجَّل ، هذا يعني أن ما قاله قديماً حقٌّ . والقرآن يقول مرة { حَقَّ ٱلْقَوْلُ } [ يس : 7 ] ، ومرة { سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ } [ هود : 40 ] ، ومرة { وَقَعَ ٱلْقَوْلُ } [ النمل : 82 ] . وكلها تدل على أن ما سبق في علم الله من الإخبار عن مختار اختار الهدى أو الضلال مُسجَّل عنده تعالى ، وهو حق كما أخبر الله به ، ولو كان العبد غير مختار لَقُلْنا : إن الله قهره على ما أراد ، لكنه مختار . والحق سبحانه له طلاقة القدرة وطلاقة العلم ، فلعلمه تعالى بما سيكون سجل وكتب ، وقد أوضحنا هذه المسألة في كلامنا عن أبي لهب : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [ المسد : 1 ] فقد كان بوسع أبي لهب حين سمع هذه الآية أنْ ينطق بكلمة الإيمان ولو نفاقاً ، وله إذن أنْ يتهم القرآن وأنْ يُكذِّبه ، لكنه لم يفعل وظَلَّ على كفره حتى صَدَق فيه إخبار الله مع أنه مختار . كذلك في قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ فِيۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ } [ المجادلة : 8 ] وعجيب منهم بعد أنْ فضحهم القرآن ، وأخبرهم بما يدور في نفوسهم ألاَّ يؤمنوا به ، وألاَّ يسألوا أنفسهم مَنِ الذي أخبر محمداً بما في نفوسنا ، ولو لم يكُنْ منهم هذا القول في أنفسهم بالفعل لواجهوا محمداً ، ولقالوا : لم يحدث منا هذا . لذلك الذين أنكروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم مع إخباره بمغيبات لا تقع عليها عقول البشر أنكروا رسالته ، ولكنهم أرادوا أن يُثبتوا له فوق الرسالة أنه إله يخبر بالشيء قبل حدوثه ، فهو صلى الله عليه وسلم يقول لهم : أنا رسول وهم يريدونه إلهاً . القول السابق وقع على هؤلاء لأنهم لا يؤمنون ، ولأنهم يكذبون ويعاندون { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } [ يس : 7 ] لذلك يقولون : إن للملائكة تعجباً ، قالوا : وما تعجُّب الملائكة . قالوا : ساعة تقع في كون الله حركةٌ يجدون خبرها عندهم في الكتاب ، فيقولون : ما أعلم ربنا وأقدره ، يعني : ما أخبر الله به ، وقع كما أخبر تماماً ، مع أن العباد لهم حرية الاختيار . ولما حاول الفلاسفة عَرْض هذه المسألة : { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } [ يس : 7 ] قالوا : الحق سبحانه وتعالى حين ترك الأمر للمكلَّف بالاختيار لأن الإنسان نفسه قَبِل أنْ يكون مختاراً لم يلزمه الله بشيء ، على خلاف السماوات والأرض والجبال ، فقد رفضتْ هذا الاختيار ، واخترت أن تكون مُسخَّرة لله ، مقهورة لإرادته سبحانه . يقول تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] . إذن : الحق سبحانه خَيّر الجميع فأبت السماوات والأرض والجبال ، أما الإنسان فقد اغترَّ بعقله وذكائه وتصرفه في الأمور ، فَقَبِل الاختيار ، فحكم الله عليه بأنه ظلوم وجهول ، ظلوم لأنه ظلم نفسه بتحمُّل الأمانة ، وجهول لأنه ضمن وقت التحمل ، ولم يَضمن وقت الأداء ، فالعاقل هو الذي ينظر إلى وقت أداء الأمانة ، لا إلى وقت تحمُّلها . فلو جاءك صديق يُودِع لديك مبلغاً من المال كأمانة لحين الحاجة إليه ، فمن السهل أنْ تقبل هذا المبلغ وفي نيتك أداؤه عندما يطلبه صاحبه ، لكنك لا تضمن أنْ تتغير ظروفك فتحتاج إليه ، أو تتغير ذمتك ، أو غير ذلك مما يطرأ على الإنسان . إذن : فجهل الإنسان هنا أنه أغفل وقت الأداء ، وظُلْمه لنفسه أنه جَرَّ عليها مَا لا تقدر عليه لأن شهوات نفسه لا بُدَّ أن تُلح عليه ، ولا بُدَّ أنْ تُوقِعه في المخالفة . قالوا : إن العالم كله محكوم بأمرين : بمشهود ، وغيب ، ومن عجيب الأمر أن المشهود هو الدليل على الغيب ، يعني خُذْ مما تراه دليلاً على ما لا تراه لذلك حين نريد أنْ نربي في الناس الإيمانَ بالله نلفت أنظارهم إلى ملكوت السماوات والأرض : { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ فصلت : 37 ] . { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى ٱلأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ فصلت : 39 ] . وبعد أنْ تتأمل في ملكوت الله وآياته في كونه فتؤمن به يعطيك قضايا أخرى لا يتسع لها عقلك ، لماذا ؟ لأنه سبحانه يريد للإيمان به عنصرين : أنْ تؤمن بالمشهد ، وأن تسلم إذا آمنت بالمشهد على وجود حق ، وهو الحق واجب الوجود ، فتسمع منه سبحانه ، فإنْ أخبرك بشيء لم يتسع له عقلك فاقبله من باطن الإيمان به . فإنْ قال لك إن الصراط مثلاً أدقُّ من الشعرة ، وأحدُّ من السيف فلا تنكر ، وإنْ كان عقلك لا يتسع لإدراكها ، لأن الذي قالها الله المشرع . فأنت أخذتَ من المشهد دليل الغيب وهو الله ، وأخذتَ من دليل الغيب وهو الله إيمانك بأشياء لا يعقلها عقلك ، فكأن المشهد والغيب عليهما مَدار الإيمان وغيره . فمطلوبات التديُّن إما مطلوبات من القلب ، أو مطلوبات من الجوارح ، أو مطلوبات من اللسان . فالقلب مطلوب منه العقيدة بأنْ يؤمن بواجب الوجود ، وأنه واحد ، وأن يؤمن بأنه لا بُدَّ أن يبلغني منهج حياتي لأنه هو الذي خلقني وأنا صنعته ، والصانع هو الذي يحدد قانون الصيانة لما صنع ، وقانون الصيانة لا يكون إلا بالبلاغ . والحق سبحانه لا يكلم الخلْق واحداً واحداً ، إنما يصطفي لهذه المهمة - مهمة البلاغ عنه سبحانه - مَنْ يشاء من الملائكة ومن البشر ، فالمصطفى من الملائكة يبلغ المصطفى من البشر ، والمصطفى من البشر يبلغ بقية الناس لذلك ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم الأمة الإسلامية في ثلاث وعشرين سنة ، ولو أن كل واحد انتظر أنْ يكلمه الله مباشرة لاستغرقتْ تربية الأمة أكثر من ذلك بكثير . إذن : البلاغ عن الله ضرورة من ضرورات وجود الله ، وإلا إذا كان الله موجوداً فأنت لا تعرف أنه سبحانه واحد ، أو أن له شريكاً ، أنت بنفسك لا تعرف هذه المسألة ، لا بُدَّ من رسول يخبرك : عن الله ، عن اسمه ، وعن صفاته ، وعن مراده منك . لذلك الذين يعبدون الشمس أو القمر أو الشجر أو الحجر أبلغ رد عليهم أنْ نقول لهم أولاً : ما هي العبادة ؟ العبادة طاعة العابد لمعبوده في أمره ونَهْيه ، فنقول : ماذا قالتْ لكم الشمس ؟ بِمَ أمرتكم ؟ وعن أيِّ شيء نهتْكم ؟ ماذا أعدَّت لمن عبدها ؟ وماذا أعدَّتْ لمَنْ عصاها ؟ إذن : هذه آلهة بلا منهج وبلا تكاليف ، فهي إذن باطلة مردودة . وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة بمثال ، قُلْنا : لو أن طارقاً طرق علينا الباب ، لا بُدَّ أننا جميعاً سنلتقي في فكرة واحدة ، هي أن طارقاً بالباب يريد الدخول ، إنما لا أحد منا يعرف مَنْ هو ؟ ولا لماذا أتى ؟ ولا من أين ، أهو بشير أم نذير ؟ هذه أمور لا بد أننا سنختلف فيها . إذن : علينا أن نقف عند الحد الذي نتفق عليه ، وهو أن طارقاً بالباب ، ونترك لهذا الطارق أن يُعبِّر هو عن نفسه ، فنقول : مَنْ أنت ؟ فيقول : أنا فلان جئت لكذا وكذا . كذلك الحق سبحانه يكفي أنْ تستدل من صُنْع الكون العجيب أن له صانعاً عالماً قادراً حكيماً ، له كل صفات الكمال ، لكن مَنْ هو ؟ وما مراده منك ؟ هذه مهمة الرسول المبلِّغ عن الله . لذلك ، فإن خيبة الفلاسفة أنهم لم يقفوا عند تعقُّل واجب الوجود سبحانه ، بل أرادوا أنْ يتصوروا واجب الوجود ، هذا هو خطؤهم ، ولو وقفوا عند التعقُّل لكان كافياً ، ثم تقول لمن تعقلته : من أنت ؟ وماذا تريد مني ؟ ماذا أعددتَ لي إنْ أطعتُك ؟ وماذا تفعل بي إنْ عصيتُك ؟ وعندها يرسل لك رسولاً يجيبك على كل هذه الأسئلة . هذا هو مطلوب التديُّن القلبي ، وهو الاعتقاد بوجود إله واجب الوجود ، واحد أحد ، وأنه يرسل الرسول ليبلغ عنه ، وهذا الرسول صادق في البلاغ مُؤيَّد بمعجزة ، هذه مسألة عقلية واضحة . وبعد أنْ آمنتَ بهذه العقلية الواضحة المشهودة يخبرك بأشياء غيبية لا دليلَ عليها ، كالإخبار مثلاً عن الجنة وصفاتها ، وأنك ستتمتع فيها وتأكل دون أن تتغوط … إلخ هذه كلها مسائل يقف العقل أمامها ، لكن مَنْ أخبرك بها ؟ الله الذي صدقك فيما شاهدتَ ، وسبق أنْ آمنتَ به ووثقتَ بكلامه . ثم يأتي دور مطلوبات الجوارح ، فالإله الذي آمنتَ به لا بُدَّ أنْ تكون على اتصال دائم به سبحانه لذلك شرع لك الصلوات الخمس ، وفيها دوام الولاء لله . لكن ، لماذا جعلها خمس صلوات ؟ قالوا : كانت خمسين لتستوعب كل الزمن يعني : خمسين تُوزَّع على أربع وعشرين ساعة ، بمعدل صلاة كل نصف ساعة ، ومن رحمة الله بنا أنْ جعلها خمساً في العمل ، وخمسين في الأجر ، ومع ذلك يملّ الناس منها . وأذكر أننا ونحن في الحرم ، كنا نصلي الظهر مثلاً ، وسرعان ما يُؤذَّن للعصر ، فلا نتمكن من الجلوس في الحرم والتأمل فيه ، والنكتة المشهورة في هذا المقام أن الشيخ أحمد رحمه الله كان كثيراً ما يُذكِّر واحداً منا بالصلاة قوم يا واد صلي . فقال له : يا شيخ أحمد احنا جايين نحج ، مش جايين نصلي . إذن : نقول جُعِلَتْ الصلاة خمساً لتستوعب كل اليوم والليلة ، ولتحقق استدامة الولاء لله تعالى ، ثم أنت في الصلاة نفسها تجد هذه ركعتين ، وهذه ثلاثاً ، وهذه أربعاً دون أنْ يعي عقلُك الحكمة من العدد هنا ، ويكفي أن تقول هنا إن الله هو الذي شرعها كذلك وتقف . ثم أنت لا تعيش في المجتمع بمفردك ، بل مع أناس ، منهم الضعيف ، ومنهم الفقير والمحتاج ، وهؤلاء لا بُدَّ أنْ يعيشوا كما تعيش أنت ، فعليك أن تُعينهم بالزكاة أو الصدقة . ثم شرع لك الصيام ، وهو عبادة تُعوِّدك ألاَّ تعصي الله وتُبعدك عن المخالفة ، حتى تصير الاستقامة عادةً مُتأصِّلة فيك ، والله يريد أنْ يستديم في التكاليف حرارة العبادة ، لا إِلْفَ العادة لذلك يأتي إلى ما أحلَّه لك في شعبان ، ويمنعه عنك في رمضان . كذلك في اللسان الذاكر الناطق بالكلمات ، هناك في القرآن كلام تفهمه ، وكلام يقف أمامه عقلك ، ففواتح السور مثلاً كلها مما تقف فيه العقول ، والباقي مما تتفتَّح فيه العقول وتفهمه لأن هناك فرقاً بين مَنْ يُقبل على الشيء لتعقله ، ومَنْ يُقبل على الشيء بدون تعقُّل ، ولكن لأن الآمر أمر به . وسبق أنْ ضربنا مثلاً قُلْنا : هَبْ أن سيداً في بيته وعنده عمال ، فقال لواحد منهم : انقل هذا الحجر من مكانه إلى مكان آخر فقال : لا أقدر وحدي ، وسوف أستعين بزميل لي ، فقال : إن تحته مالاً هو لك ، عندها سيكافح وحده لنقْل الحجر ، إذن : نقله للعلة أم للأمر ؟ للعلة ، والإيمان لا يكون كذلك ، الإيمان لا يكون لعلة ، إنما انصياعاً للأمر . فالمعنى : { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ } [ يس : 7 ] يعني : وجب وثبت وجاء كما سجلناه عليهم ، وقوله { عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ } [ يس : 7 ] يعني : ليس عليهم جميعاً ، وهذا كما قلنا سابقاً احتياط للواقع ، وهو دليل على أن منهم مؤمنين ، ولو رجلاً واحداً ، وهذا الاحتياط من القرآن نسميه " صيانة الاحتمال " . وقوله تعالى : { فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } [ يس : 7 ] إخبار يدل على حيثيات هذا الإخبار . ثم يقول سبحانه : { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً … } .