Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 81-82)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذا تَرقٍّ في الدليل ، فبعد أنْ ذكر سبحانه آية جَعْل الشجر الأخضر ناراً ، يسوق الدليل الأقوى ، وهو خَلْق السماوات والأرض ، السماوات دليل من العلو الثابت الذي لا يتغير ، والأرض دليل ملامس لنا ، نشاهده ونباشره . وحيثية هذه الآية جاءت في آية أخرى ، حيث قال الحق سبحانه : { لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ غافر : 57 ] . فإنْ قُلْتَ : عَلِّلْ لنا أن خَلْق السماوات والأرض مع أنها لا تحس ولا تتكلم ولا تعلم … الخ . أكبر من خَلْق الناس ، نقول : نعم خَلْق السماوات والأرض أكبر من خَلْق الناس لأنها منذ خلقها الله على حالها لم تتغير ، وستظل إلى قيام الساعة ، أما أنت أيها الإنسان فتموت ، تموت وأنت طفل ، بل وأنت جنين في بطن أمك ، تموت وأنت شاب وأنت شيخ هَرِم ، وقصارى ما يمكن أن تصل إليه لو عُمرت في الدنيا مائة عام أو يزيد عليها بضعة أعوام ، فأين عمرك من عمر الشمس ، أو القمر أو الأرض ؟ وهَل رأيت خادماً أطول عمراً من مخدومه ؟ إننا نتوارد على هذا الكون أفراداً وأمماً ودولاً ، تذهب جميعها وتَفْنى وتبقى السماء والأرض كما هي شامخة عظيمة ، لا يطرأ عليها تغيير ، ولا تخرج عن قانون التسخير في شيء أبداً ، ومنذ أن خلق الله هذا الكون ما رأينا كوكباً خرج عن فلكه ، ولا تخلَّف عن موعده ، أو امتنع عن أداء مهمته . هذا حال الجمادات في السماوات والأرض ، فما حالكم أنتم أيها العقلاء ؟ لو تحدَّثنا في المادة فهي تبقى وأنتم تموتون ، وفي المعاني والقيم تتساند هذه الجمادات ، وأنتم تتعاندون وتختلفون وتتصارعون ، فأيُّكم إذن أحسن خَلْقاً وأكبر ؟ لذلك يجيب الحق سبحانه على هذا الاستفهام المنفي : { أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم … } [ يس : 81 ] . فيقول بَلَى أي : نعم قادر { وَهُوَ ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ } [ يس : 81 ] وخلاَّق صيغة مبالغة من خالق ، ليؤكد هذه القضية لكل مكذِّب بها ، وهو سبحانه { ٱلْعَلِيمُ } [ يس : 81 ] أي : بمَنْ خلق . ثم يقول سبحانه : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] هنا إشارة لطيفة من الحق سبحانه لكل مُكذِّب بالبعث ، كأن الله يقول لهم : يا مَنْ تكذِّبون بقدرة الله على بَعْث العظام التي رمَّتْ ، أتظنون أن الله يخلق بعلاج كما تخلقون أنتم ، الله الخالق لا يخلق بعلاج ، وإنما يخلق بكلمة كُنْ ، بل يخلق سبحانه بمجرد مراده ، فإنْ أراد شيئاً كان ، دون أنْ يقول ، ودون أنْ يأمر ، وما كلمة كُنْ إلا لتقريب المسألة إلى أذهاننا . وسبق أنْ أوضحنا هذه العملية بمثال ، ولله المثل الأعلى ، قلنا : كيف تنكر أيها الإنسان قدرة الله ، وقد أفاض عليك بمثلها في ذات نفسك ، فأنت مثلاً حينما تريد أنْ تقوم من مجلسك ، ماذا تفعل ؟ هل أمرتَ العضلات أنْ تتحرك ، بل هل تعرف أصلاً ما هي العضلات التي تقيمك ، وما الأعصاب التي تتحكم في هذه العملية ؟ إنك تقوم بمجرد إرادتك للقيام وليس لك دَخْل فيها ، بدليل أن الطفل الصغير الذي لا يعرف عن تكوين جسمه شيئاً يقوم إذا أراد القيام ، فإذا كنتَ أنت أيها الإنسان تنفعل لك الأشياء دون أنْ تقولَ لها انفعلي ، فهل يليق بك أنْ تُكذِّب بهذا في حق ربك وخالقك ؟ فإنْ قُلْتَ : فلماذا لا آمر أعضائي وأقول لها : اعملي كذا وكذا ؟ نقول : الحق سبحانه يقول للشيء كُنْ لأنه سبحانه يعلم أن الأشياء ستأتمر بأمره ، ولن تخرج عن مراده ، إنما هل أنت واثق أنها ستأتمر بأمرك إنْ أمرتها ؟ إنك لا تثق بهذه المسألة بدليل أن الله تعالى حين يسلب الإنسان هذه القدرة تخرج أعضاؤه عن طاعته ، فيريد أنْ يقوم فلا يستطيع ، تشل الأعضاء فلا تتحرك . إذن ، نقول : إذا كان المخلوق مجرد إرادته تسيطر على جوارحه ، فهل نستبعد أن تكون إرادة الخالق الأعلى تسيطر على هذا الكون المخلوق له سبحانه ؟ وكلمة كُنْ يقولها الله ليقرِّب لنا فَهْم المسألة ، ويقولها لأن الأشياء لا تتخلف أبداً عن طاعته والانفعال لأمره ، إنما أنت إنْ قُلْتها فلن يسمعك أحد لذلك قال سبحانه موضحاً استجابة الأرض لأمره سبحانه : { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [ الانشقاق : 2 ] أي : حَقَّ لها أنْ تسمع ، وأنْ تطيع . ومعنى { أَن يَقُولَ لَهُ } [ يس : 82 ] أي : للشيء الذي لم يُوجد بَعْد ، فكيف أذن يخاطبه وهو ما يزال غَيْباً ، قالوا : الخالق سبحان خلق كل الأشياء أزلاً في عالم اسمه " عالم المثال " ، فالأشياء موجودة بالفعل ، لكن تنتظر الأمر بالظهور والخروج إلى عالم الوجود لذلك قال أحد العارفين : أمور يُبديها ولا يبتديها .