Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 83-83)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
عرفنا في الآية السابقة أن الحق سبحانه إذا قال كُنْ انفعلتْ له الأشياء وأطاعت ، أما إنْ قالها الإنسان فلن يستجيب له شيء ، وقلنا : إذا ورد لله تعالى وَصْف يُوصف به البشر ، فعلينا أنْ نأخذه في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] إذن : طبيعي أنْ تختم هذه الآيات والسورة كلها بقوله تعالى { فَسُبْحَانَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } [ يس : 83 ] يعني : تنزيهاً له عن أن يُشبهه أحد ، لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله . وكلمة { مَلَكُوتُ } [ يس : 83 ] من ملك ، وهذه المادة الميم واللام والكاف تُستخدم على معان أربعة : الأول : نقول مالك ، وهو كل مَنْ ملَك شيئاً ولو كان يسيراً ، فلو كان لا يملك إلا الثوب الذي يلبسه يُسمَّى مالك . الثاني : نقول مَلِك وهو الذي يملك مَنْ مَلَك أي : يملك أنْ يتصرف فيه وفي إدارة حركته ، الثالث : كلمة المُلْك وهي أن يترقى الملك في أمور ظاهرة يعرفها الناس ، الرابع : كلمة الملكوت ويُراد بها الملْك المستور غير الظاهر ، وهو أقوى وأعمّ من المُلْك . وقد يكون الشيء من عالم الملكوت ، ثم يصير إلى عالم المُلك مثل الأشياء التي كانت غيباً واكتشفها الإنسان أو ابتكرها ، فصارت مشهودة ، وهناك أشياء تظل دائماً في عالم الملكوت لا نعرف شيئاً عنها إلا في الآخرة ، وهذا النوع هو الذي يُكذِّبون به ، ومن ذلك قوله تعالى في شأن سيدنا إبراهيم : { وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ الأنعام : 75 ] . نعم ، يُطلعه الله على عالم الملكوت ، لأنه لما أطلعه على عالم الملْك وابتلاه نجح في الابتلاء بتفوق ، نجح في كل مراحل حياته ، نجح وهو شيخ كبير في مسألة ذَبْح ولده إسماعيل ، نجح لما أُلْقِي في النار لذلك صار أهلاً لأنْ يُطلِعه الله على أسرار الكون ، وعلى عالم الملكوت ، كما لو أن في أولادك ولداً صالحاً ترى فيه مخايل النجابة ، فتصطفيه بشيء تفضله به عن باقي الأولاد ، كذلك مَنْ يحسن العبودية لله تعالى يحسن الله له العطاء . ومن ذلك ما قَصَّه علينا القرآن في سورة الكهف من قصة العبد الصالح الذي رافقه نبي الله موسى وتعلَّم منه ، والذي قال الله فيه { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } [ الكهف : 65 ] هذا العبد الصالح لم يكُنْ نبياً ، ولم ينزل عليه الوحي ، ومع ذلك تعلَّم منه النبي ، لماذا ؟ لأنه أخذ ما جاء به الرسول وطبَّقه على نفسه ، فلما علم الله منه أنه مأمون على مناهج الله وعلى أسراره زاده وأعطاه من علمه اللَّدُنيِّ ، وكشف له من أسرار الملكوت . ألاَ ترى أن سيدنا موسى - عليه السلام - غضب منه حينما خرق السفينة ، وتعمد أنْ يعيبها ، وهي لمساكين فقراء ، هذا هو عالم الملْك الذي اطَّلع عليه العبد الصالح ، أما علمه بعالم الملكوت ففي قوله : { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } [ الكهف : 79 ] فأطلع العبدَ الصالح على بعض عالم الملكوت ، كما أطلع إبراهيم عليه السلام على ملكوت السماء . وكلمة ملكوت تحمل معنى المبالغة ، مثل : رحموت وجبروت ورهبوت ، فهي إذن للمبالغة في الملْك ، لكن نلحظ عند علماء القراءات أن أحدهم يقرأ : { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [ الفاتحة : 4 ] فيقول مَلِكِ يوم الدين بدون صيغة المبالغة ، قالوا : لأن الكلام عن يوم الدين ، وفي هذا اليوم الملْك كله لله وليس لأحد مُلْك ، ولا حتى الثوب الذي يرتديه . ومن ذلك أيضاً قولنا في الأذان الله أكبر فذكر الصفة أكبر دون مبالغة ، ولم يذكر الاسم الكبير ، فكيف يتأتَّى ذلك في شعار الصلاة ، التي هي عماد الدين ، ونأتي بالصفة دون الاسم ؟ قالوا : لأن الأذان يأخذ الناس من أعمالهم للاستجابة لنداء ربهم ، والعمل له اعتباره في الإسلام لأنه مهمة الإنسان في الحياة ، وبه يتوصَّل إلى طاعة الله لذلك يُقدِّره الدين ولا يحتقره . ومعنى الله أكبر أن العمل كبير ومهم ، لكن الله أكبر ونداء ربِّك أهم ، أما كبير فهي اسم من أسماء الله . ومعنى كبير أن ما دونه صغير لذلك أتى في الأذان بالوصف لا بالاسم . فقوله تعالى : { فَسُبْحَانَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } [ يس : 83 ] أي : ما تراه وما لا تراه من الملك ، وما خَفِي عنك ، ثم توصَّلْتَ إليه بالعلم واكتشفته ، والذي لا تراه من الملك إلى أنْ يخبر الله به أحد عباده : { عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } [ الجن : 26 - 27 ] . والتحقيق أن المغيبات والأسرار المطمورة في الكون لا يكتشفها الإنسان إنما تُكْشف له ، وقلنا : إن كل سِرٍّ في الكون أراد الله أنْ يُظهره له عمر وميلاد ، فإنْ صادف ميلادُه بحثَكَ ظهر على يديك ، وإلا أظهره الله لك مصادفة في موعده إذا لم تبحث عنه لذلك يقولون : إن سبعة وتسعين بالمائة من مكتشفات الحياة ظهرت لنا مصادفة . ويقول سبحانه في آية الكرسي : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } [ البقرة : 255 ] فالإنسان لا يحيط إلا بعلم الشيء اليسير من علم الله ، ولا يحيط بهذا اليسير إلا بعلمه تعالى وإذنه ، حين يأذن بميلاد الشيء وظهوره . وقوله سبحانه : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ يس : 83 ] أي : يوم القيامة ، فكونوا على ذِكْرٍ لهذه الحقيقة ، فمَنْ لم يؤمن بنعمة الخَلْق ترهبه نعمة الإعادة والمرجع ، فأنتم ما خُلِقْتم عبثاً ، ولمن تُتْرَكُوا سُدىً .