Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 37, Ayat: 11-11)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { فَٱسْتَفْتِهِمْ } [ الصافات : 11 ] أمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ، يعني : سَلْهم ، واستفتى طلب الفتوى لأن الألف والسين والتاء تدل على الطلب ، والفتوى من الفُتوَّة ، فحين يكون الإنسان بصدد شيء ، يريد أن ينفذه ، ولا يعرف فيه طريق الحق والصواب يذهب إلى مَنْ هو أعلم منه يستفتيه . يعني : يطلب منه الفتوى أو الفتوَّة ، والقوى الدافعة له على العمل ، فكأنه كان ضعيفاً وأراد أن يَقْوَى برأي غيره . فكأن الحق - سبحانه وتعالى - استأمنهم أنْ يُفتوا ، وأنْ يجيبوا هم لأنه سبحانه واثق من أن الخصوم لن يجدوا إلا قَوْلة الحق ينطقون بها لذلك لم يأتِ سبحانه بالمراد إخباراً ، إنما أتى به إقراراً منهم وشهادة لأن الخبر يحتمل الصدق أو الكذب ، أمَّا الإقرار فلا يستطيع أحد إنكاره لذلك قالوا : الإقرار سيد الأدلة . ومضمون السؤال { فَٱسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ } [ الصافات : 11 ] ؟ يعني : أهم وأعظم وأشدّ خَلْقاً من السماء والأرض ، ثم لم يَأْت بالجواب لوضوحه ، ولن يكون إلا أنّ خَلْق السماء والأرض أشدُّ من خَلْقهم وأعظم لذلك قال سبحانه في موضع آخر : { لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ غافر : 57 ] . فإنْ أردتَ أنْ تُدلِّل على هذه المسألة فتأمل خَلْقك وخَلْق السماوات والأرض ، فالسماء والأرض مع أنهما يخدمانك ، إلا أنهما أطول عمراً منك وأبقى ، فهما منذ خلقهما الله باقيان لم يزولا ، أما الإنسان فيموت وهو طفل ، ويموت وهو شاب ، ويموت وهو شيخ ، يموت ويترك التركة باقيةً تتوارثها الأجيال . إذن : هما أشدّ وأقوى لأنهما مخلوقان خلقة دائمة ، وأقوى من ناحية أنهما محكومان باختيارهما حين قالتا : { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] . فاختارا أن تكونا مُسخَّرتين قال تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] . وقلنا : إن هناك فَرْقاً بين قدرة النفس على تحمُّل الأمانة وقدرتها على الأداء ، فقد تتحمل الأمانة وتنوى أداءها ، لكن لا تضمن نفسك عند الأداء ، فربما تغيَّرتْ الظروف ، أو طرأ عليك ما يحول بينك وبين أدائها لذلك امتنعت السماوات والأرض عن حَمْل الأمانة ، وخرجت عن مرادها لمراد ربها ، فكانت مُسخَّرة . إذن : فهي أيضاً مُخيَّرة إلا أنها اختارتْ بكلمة واحدة منسحبة على الزمن كله ، أما الإنسان فاختار أنْ يكون مختاراً ينفذ أو لا ينفذ . ثم إن السماء والأرض وما بينهما وما فيهما من مخلوقات وكواكب وأجرام وأفلاك تسير وفق نظام دقيق مُحكَم ، لا يشذ ولا يتخلف أبداً : { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } [ الرحمن : 5 - 6 ] . وقال : { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] . أما الإنسان فيتخبط في الحياة ، ويخالف منهج ربه ، وينحرف عن الطريق الذي رُسِمَ له . إذن : أيّهما أعظم خَلْقاً ، وأشدّ تكويناً ، وأصحّ أداءً ؟ لا يسع هؤلاء الكفار رغم كفرهم إلا أنْ يقولوا : السماوات والأرض أشدُّ وأعظم من خَلْق الإنسان . ومثال ذلك حين سألهم الله { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [ الزخرف : 87 ] { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [ الزمر : 38 ] لأن هذه كلها حقائق لا تُنكر ، حتى من الكفار . ثم يسوق لهم الحق سبحانه دليلاً على صِدْق هذه المسألة ، فيقول : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [ الصافات : 11 ] يعني : هذا أصلهم ، فأين هم من خَلْق السماوات والأرض ؟ ومعنى { لاَّزِبٍ } [ الصافات : 11 ] يعني : طين متماسك بعضه ببعض ، فهو وَسَط بين السيولة والصلابة ، يعني : أشبه ما يكون بطين الصَّلْصَال الذي نوزعه على التلاميذ في المدارس ، والطين تراب وُضِع عليه الماء ، فإنْ زاد الماء صار الطين لَيِّناً يسيل من يدك ، وإنْ قَلَّ الماء جَفَّ وتصلَّبَ . لذلك وقف المستشرقون عند مراحل التكوين الإنساني يعترضون : من أيِّ شيء خَلِق الإنسان ، والقرآن قال { مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] و { مِّن تُرَابٍ } [ الحج : 5 ] و { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 33 ] و { مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ } [ الرحمن : 14 ] . وقد غاب عنهم أن هذه مراحل للشيء الواحد كما قلنا ، فالماء يُوضَع على التراب فيصير طيناً ، ولو تُرِك هذا الطين إلى أنْ يعطن أو يتعفن يصير حمأ مسنوناً ، فإنْ تُرِك حتى يجفَّ يصير صَلْصالاً . الحق سبحانه يُحدِّثنا هنا عن الخَلْق الأول للإنسان { فَٱسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [ الصافات : 11 ] لأن آدم عليه السلام خُلِق من الطين ثم خُلِقت بعده حواء ، والقرآن قَصَّ علينا قصة خَلْق آدم ، لكن اكتفى في خَلْق حواء بقوله تعالى : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] . قالوا : { مِنْهَا } يعني من جنس تكوينها ، فيصح أن تكون حواءُ قد خُلِقت مثل آدم من الطين ، أو خُلِقَتْ من ضلع من أضلاعه ، وفي كلتا الحالتين تعود إلى أصل الطين ، والله تعالى يخلق ما يشاء ، وسبق أنْ بيَّنا طلاقة القدرة في عملية خَلْق الإنسان ، وأنها استوعبت كُلُّ الصور العقلية لهذه العملية ، فالله سبحانه يخلق من لا أب ولا أم ، ويخلق من أب بلا أم ، ويخلق من أم بلا أب ، وقد يجتمع الأب والأم ولا يحدث بينهما إنجاب . يقول الحق سبحانه : { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً } [ الشورى : 49 - 50 ] . إذن : خُلِق الإنسان الأول ، وهو آدم عليه السلام من الطين ، وخُلِقَتْ من جنسه زوجه ، ثم جاءت الذرية من آدم بعد أنْ فارق الطينية وصار إنساناً ، فنحن وإنْ جئنا من نسل إنسان ، إلا أنه يعود في أصله إلى الطين ، فإنْ قُلْتَ : أين الطينية ، وقد تشكَّل شكلاً آخر غير الطين ، بدليل أنه إذا استحم بالماء لا يذوب كما يذوب الطين وتتفكك جزئياته . نقول : لا بُدَّ أن يرد الإنسان الأصل أو الفرع إلى الأصل الأول وهو الطين لأن الإنسان يتوالد ويتكاثر بواسطة الحيوان المنوي في الذكر والبويضة في الأنثى ، فمن أين يأتي هذا وهذه ؟ من الدم ، والدم نتيجة الغذاء ، والغذاء مصدره الأرض والطين . إذن : سنؤول لا محالة إلى الطين ، لكن من الطين مرة بواسطة ، ومرة بدون واسطة . والحق سبحانه نبّهنا إلى هذه المسألة في قوله تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [ فصلت : 53 ] . فنحن لم نشاهد عملية الخَلْق ، إنما أخبرنا الله بها ، فعلمنا أن الإنسان خُلِق من الطين الذي مَرَّ بهذه المراحل ، حتى نفخ الله فيه الروح ، ودبَّتْ فيه الحياة ، هذا كله لم نشاهده ، لكن شاهدنا الموت الذي ينقض الحياة ، وعلينا نحن أن نأخذ مما نشاهده دليلاً على صدق الغيب الذي أخبرنا الله به ولم نشاهده . ونحن نعلم أن نَقْضَ الشيء يأتي على عكس بنائه ، فالذي يهدم عمارة مثلاً من عدة أدوار يبدأ بالدور الأخير ، كذلك يأتي الموت عكس الحياة ، فأول شيء ، تخرج الروح ، ومعلوم أنْ نَفْخَ الروح في الإنسان هى آخر مرحلة في مراحل الخَلْق ، فإذا ما فارقتْ الروحُ الجسدَ عاد إلى أصله ، حيث يرمّ الجسد وتمتص الأرض ما فيه من الماء ، ثم يتحلل الباقي ويعود إلى التراب الذي جاء منه . ثم آخر ، هو أن الإنسان الذي خُلِق من الطين وقوامه الغذاء الذي يخرج من الطين ، لما حَلَّل العلماء جسمَ الإنسان وجدوه مُكوِّناً من 16 عنصراً . أولها : الأوكسجين ، ثم الكربون ، ثم الهيدروجين ، ثم النتروجين … الخ . وهي نفس العناصر المكوِّنة للتربة الزراعية الخِصْبة التي تعطينا القوت ، إذن : يكون هذا دليلاً على صِدْق الحق - تبارك وتعالى - في قوله : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [ الصافات : 11 ] .