Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 38, Ayat: 29-29)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الكتاب هو القرآن ، والمبارك هو الشيء الذي يعطي من الفائدة والخير فوق ما يُتصوَّر منه ، تقول : هذا الشيء نأخذ منه ولا ينقص ، نسميه مبروك كرجل يعيش على راتب محدود ، ومع ذلك تراه يُربِّي أولاده أحسن تربية ويعيش بين الناس عيشة الأغنياء ، فيقولون : إنه رجل مبارك ، وأن الله يبارك في راتبه القليل فيصير كثيراً ، لكن كيف يبارك الله في القليل ؟ قالوا : ينزل على القليل ، القناعة أولاً فيرضى صاحبها ، ثم يسلب المصارف فلا ينفق منها إلاَّ في المفيد ، الناس يظنون أنَّ الرزق هو المال ، ولا يدرون أن سَلْبَ المصارف لونٌ من ألوان الرزق ، وقلنا : إن الرزق رزقُ إيجابٍ بأنْ يزيد الدَّخْل ، ورزقُ سَلْب بأنْ تقلَّ المصارف . ومثَّلْنا لذلك بالرجل يعيش من الحلال ، وحين يمرض ولده مثلاً يكفيه كوبٌ من الشاي وقرص أسبرين ، أما الذي يعيش من الحرام ويكثُر المال في يده حين يمرض ولده لا بُدَّ أنْ يذهبَ به إلى أفضل الأطباء ، وينفق على شفائه أضعاف ما يُنفق الأول . والقرآن مباركٌ ، وآياته مباركة من حيث الأحكام الظاهرية ، لأنه سيربي النفس على استقامة ، هذه الاستقامة لو نظرتَ إليها اقتصادياً تجد أنها لا تُكلِّفك شيئاً ، نعم الاستقامة لا تكلفك ، أمَّا الانحراف فهو الذي يُكلِّف ، لذلك قال صلى الله عليه وسلم : " المؤمن يأكل في مِعَىً واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء " . نعم الكافر يأكل كثيراً ليشبع ، أما المؤمن فتكفيه لُقيمات يُقمْنَ صُلْبه ، ثم هو لا يأكل إلا إذا جاع ، وإذا جاع صار أيُّ طعام بالنسبة له لذيذاً ، ولو كان الخبز الجاف والملح ، لذلك قال العربي الحكيم : طعام الجائع هنيء . أما الآن فنراهم يجهزون قبل الطعام السَّلَطات والمشَهِّيات والمقبِّلات ، لماذا ؟ ليأكل الإنسان كثيراً ، يأكل حتى التخمة ، ثم بعد ذلك يحتاج إلى المسهِّلات والمهضمات … إلخ . وهذا ليس من صفات المؤمن لأن سيدنا رسول الله وضع لنا المنهج في ذلك ، فقال : " نحن قوم لا نأكل حتى نجوع ، وإذا أكلنا لا نشبع " فهذا المنهج يراعي الناحية الاقتصادية ، ويوفر الخير والسعادة للكل : اقتصادياً ، واجتماعياً ، وسياسياً ، وأمنياً بدون تكلفة . ثم إن القرآن مُبَاركٌ من ناحية أخرى ، فحين تتفاعل مع المنهج ، وحين تعشقه يُبيِّن لك الحق سبحانه ألواناً من الأسرار يتعجَّب منها غيرك ، ويفتح عليك فُتُوحات عجيبة ، ألم يتعجَّبْ موسى - عليه السلام - وهو نبيّ الله من عمل العبد الصالح ، والعبد الصالح عبد الله على منهج موسى ، ومع ذلك أمر الله موسى أنْ يتبعَ العبد الصالح ، وأن يتعلَّم منه ، لكنه يتبعه بإخلاص وبعشق ، فلما اتبعه موسى بعشق وإخلاص تعلَّم منه الأعاجيب ، وهذا المعنى ورد في قوله تعالى : { يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } [ الأنفال : 29 ] . الفرقان هنا ليس هو القرآن ، بل هو فرقانٌ خاصٌّ لمن يتبع الفرقان الأول وهو القرآن ، ويصل به إلى درجة التقوى ، يعطيه الحق سبحانه فرقاناً خاصاً لأنه اتبع القرآن بإخلاص وبعشق . ومعنى { لِّيَدَّبَّرُوۤاْ آيَاتِه … } [ ص : 29 ] والتدبُّر هو ألاَّ ننظر إلى الوسيلة نظرةً سطحية ، إنما ننظر بتفكُّر وتمعُّن وحساب للعاقبة ، ننظر إلى الخلفيات واللوازم لنستنبط ما في الشيء من العِبَر ، لذلك لما خرقَ الخِضْر السفينة اعترض موسى لأنه نظر إلى سطحية المسألة والمنطق . يقول : إن السفينة السليمة أفضل من المعيبة إنما للعبد الصالح مقياسٌ آخر ، فهو لا يقارن بين سفينة سليمة وأخرى مخروقة ، إنما يُقارن بين سفينة مخروقة ولا سفينة أصلاً أيهما أفضل ؟ لأن الرجل الظالم كان سيأخذ السفينة ، إنْ كانت سليمة فَخُرقها هو الذي نجَّاها من هذا الظالم ، وبقيتْ السفينةُ لأصحابها ، هذا هو علم الملكوتيات والغيبيات التي يفيض الله بها على مَنْ يشاء من عباده الذين أخلصوا له سبحانه . وقوله : { وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } [ ص : 29 ] أي : أصحاب العقول الواعية ، وتأمل هنا أن الحق سبحانه يُنبِّه العقول ، ويُحرِّك الفهم إلى تأمُّل آياته في الكون ، والمقابل لك أو الذي بينك وبينه صفقة لا ينبهك إليها ، إلا لأنه واثق أنك ستُقبل عليها وإلا أخفاها ودلَّسَ عليك ، كالذي يبيع لك سلعة جيدة تراه يشرح لك مزاياها ، ويدعوك إلى اختبارها ، والتأكد من جودتها ويُنبِّه عقلك إلى ما خَفِي عنك منها . أما صاحب السلعة الرديئة فإنه يصرف نظرك عن عيوبها ، ويشغل عقلك بأمور أخرى ، حتى لا تتنبه إلى عيوب السلعة ، فمثلاً تدخل المحل لشراء حذاء مثلاً ، فإنْ كان ضيقاً يقول لك البائع : إنه يتسع بالمشي فيه ، وإنْ كان واسعاً سبقك هو بقول : أنا أرى أنه ضيق عليك قليلاً ، المهم عنده أن يلف عقلك حتى تشتريه . فالحق - سبحانه وتعالى - يدعونا إلى تأمُّل آياته وتدبُّرها والبحث فيها ، لأنه سبحانه واثق أننا حين ننظر وحين نبحث ونتأمل سنقتنع بها ، وسنصل من خلالها إلى الحق والصواب . ومع ذلك نرى البعض يقف أمام بعض المسائل الدينية يقول : هذه مسألة فوق البحث ولا عملَ للعقل فيها ، ونقول : لكن أمرنا بالتدبُّر والتفكّر والتأمّل في الكون ، فلا مانع أنْ نبحث . ثم يعود بنا السياق القرآني مرة أخرى إلى سيدنا داود ، لا ليقصَّ علينا قصته ، إنما لأنه سيكون أباً لنبي آخر ، هو سيدنا سليمان عليهما السلام : { وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ … } .