Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 38, Ayat: 30-33)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
من عجائب السياق القرآني في ذكر داود وسليمان أنهما يشتركان في مسألة واحدة ، فلو نظرتَ إلى أول آية ذكرت سيدنا داود تجدها في سورة البقرة في قوله تعالى : { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ … } [ البقرة : 251 ] . وآخر ذكر له هنا في سورة ص : { وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ … } [ ص : 30 ] . كذلك أول ذِكْر لسيدنا سليمان ورد في سورة البقرة في قوله تعالى : { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ … } [ البقرة : 102 ] . وآخر ذكر له في سورة ص في قوله تعالى : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ } [ ص : 34 ] . قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ … } [ ص : 30 ] الوهْب : عطاءٌ بلا مقابل ، فإنْ قُلْتَ : فالإنجاب كله يُعَدُّ بلا مقابل ، نعم لكن الخالق سبحانه يهبك ذاتاً ، ثم يزيد عليها هبة أخرى هي الصفات التي تتوفر للذات ، مثل : الملك والحكمة وغيرها لذلك الذين يطلبون الأشياء على غير مَظانِّها من الأسباب يطلبونها بالهبة ، كما في قوله تعالى : { وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ … } [ ص : 35 ] . وقوله تعالى : { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً } [ مريم : 5 - 6 ] . فسيدنا زكريا حين طلب من الله الولد كان شيخاً كبيراً ، وكانت امرأته عاقراً ، فالأسباب كلها ليست مُواتية وليست صالحة للإنجاب ، لذلك طلبها على سبيل الهبة من الله ، لا بالقانون والأسباب . وإنْ كانت الأسبابُ في ذاتها هبةً إلا أنها هبة عامة ، لكن ما يلحق الذات من الصفات الخاصة تُعَدُّ هبة خاصة . وقوله تعالى : { نِعْمَ ٱلْعَبْدُ … } [ ص : 30 ] نعرف أن نِعْم تُقَالُ للمدح ، والمدح هنا بالصفة العقدية ، وهي العبودية لله تعالى . وسبق أنْ قلنا : إن كلمة عبد وعبودية كلمة ممقوتة عند الناس ولهم الحق في مَقْتها ، لأن العبودية للبشر يأخذ فيها السيدُ خَيْر عبده ، لكن العبودية لله تعالى يأخذ العبد من خير سيده ، فهذه هي العبودية الحقة التي تُعَدُّ عِزَّاً للعبد ورفعة . لذلك لما تجلى الحق سبحانه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بنعمة الإسراء والمعراج ، قال : { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ … } [ الإسراء : 1 ] فكأن عبوديته لربه هي التي أوصلْته إلى هذه المنزلة . لذلك - ولله المثل الأعلى - الرجل صاحب الصنعة أسطى أو معلم وتحت يده صبيان ، يُقرِّب منهم المخلص الذي يُحسن صنعته ، ويجيد الخضوع له والطاعة والخدمة ، لذلك يختصه بمواهبه ، ولا يضِنُّ عليه بخفايا الصَّنْعة ودقائقها ، ويعطيه خصوصيات لا يعطيها لغيره . ومع أنه - عليه السلام - كان مَلِكاً إلا أن ربه مدحه بصفة العبودية { نِعْمَ ٱلْعَبْدُ … } [ ص : 30 ] ثم بيَّن لنا مَناط المدح بالعبودية ، فقال { إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ ص : 30 ] يعني : رجَّاع إلى الله إنْ هفت نفسه هفوة أنَّبَ نفسه عليها ، ورجع إلى ربه ، ويتوب إليه ، لذلك يقول تعالى في بيان التوبة : { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ … } [ النساء : 17 ] . معنى { بِجَهَالَةٍ } [ النساء : 17 ] يعني : لم يخطط لها ولم يرتب للمعصية ، وإذا حدثتْ منه لا يفرح بها ولا يجاهر ، بل يحزن ويلوم نفسه { فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ النساء : 17 - 18 ] . وضربنا مثلاً لهذين النوعين بطلاب العلم الذين كانوا يسافرون في بعثات علمية إلى فرنسا ، فكان منهم المستقيم الملتزم بمنهج الله ، لكن تفاجئه إحدى الفتيات المنحرفات ليلاً ، وتعرض نفسها عليه ، وتظل تغريه حتى يرتكبَ معها الفاحشة ، هذا فعلها بجهالة ودون قَصْد أو تدبير ، على خلاف الآخر الذي يسعى إلى الفاحشة ويتتبع عناوين أصحابها ، وهذا هو الذي يقصد المعصية ويسعى إليها . وكلمة { أَوَّابٌ } [ ص : 30 ] يعني : كثير الأَوْبة والرجوع ، فهي صيغة مبالغة بمعنى رجَّاع إلى الحق ، فهو لم يفرح بالمعصية ، وإنما ندم عليها وتدارك خطأه وصوَّب طريقه ، بدليل قوله تعالى بعدها : { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ } [ ص : 31 ] . العشيّ : ما بعد الظهر إلى المغرب ، وعرض عليه مثل العرض العسكري الذي يستعرض فيه القائد جنوده وقواته . ومعنى { ٱلصَّافِنَاتُ … } [ ص : 31 ] جمع صَافِن ، وهو الجَواد العريق الأصيل ، وتستطيع أنْ تلاحظ الجواد الأصيلَ من وقفته ، فهو لا يقف على أربع ، إنما على ثلاث في رشاقة ، وكأنه على أُهبة الاستعداد . ومعنى { ٱلْجِيَادُ } [ ص : 31 ] جمع : جَوَاد وهو القوي السريع ، فلما عُرِضَتْ على سيدنا سليمان الصافناتُ الجيادُ من خَيْلِه وقواته ، قال { إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } [ ص : 32 ] قالوا : الخير هنا يُرَاد به الخيل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الخيل مَعْقُود بنواصيها الخيرُ إلى يوم القيامة " . وقال : " خَيْر ما ربيت فرس تُمسك عَنَانه ، حتى تسمع كل صيحة تطير إليها " . لذلك لما أمرنا ربنا أنْ نستعدَّ لأعداء الدين والمنهج ، قال : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ … } [ الأنفال : 60 ] أي : قوة عامة . ثم خَصَّ الخيل ، فقال : { وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ … } [ الأنفال : 60 ] . فلما عُرِضَتْ الخيل على سليمان قال { إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي … } [ ص : 32 ] يعني : حباً ليس للتباهي والخيلاء ، كالذين يُربُّون الخيل للمظهر ودخول السباق وذياع الصيت ، إنما أحببتها حباً صادراً عن ذِكْر ربي وذكر منهج ربي ، الذي أمر بإعداد الخيل والرباط والقوة التي تستطيع أنْ تفرض منهج الله في الأرض . { حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } [ ص : 32 ] الفاعل هنا مستتر ، والفاعل حين يأتي مستتراً لا بد أنْ يكون له مرجع كما تقول : جاءني رجل فأكرمتهُ يعني : أكرمتُ الرجل المذكور . وقوله : { تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } [ ص : 32 ] مشهود في الشمس حين تغيب ، فالمعنى حتى توارت الشمس وغابت . وقالوا : إنه فاتته صلاة العشي لانشغاله باستعراض الخيل ، فلما فاتَتْه الصلاة { رُدُّوهَا عَلَيَّ … } [ ص : 33 ] أي : الخيل ، أرجعوها إليَّ { فَطَفِقَ … } [ ص : 33 ] شرع { مَسْحاً بِٱلسُّوقِ وَٱلأَعْنَاقِ } [ ص : 33 ] . يعني : يمسح على سُوق الخيل وأعناقها دلالةً على إكرامها والاهتمام بها ، وخصَّ السُّوق والأعناق من الخيل لأنها أكرمُ ما فيها ، فالأعناق بها الأعراف ، والسُّوق أداة الحَمْل والجري ، والمعنى أنه سُرَّ منها فمسح بيده على السُّوق والأعناق . بعض المفسرين لهم رأي آخر ، قالوا : المسح هنا يُراد به أنه أراد قَتْلها وذبْحها لأنها أَلْهَتْهُ عن الصلاة ، وهذا الكلام أقربُ إلى الإسرائيليات لأن الخيل لم تشغله ، بل هو الذي شغلها وشغل الدنيا كلها من حوله ، فما ذنب الخيل ؟ والعجيب أن في الإسرائيليات أشياء كثيرة تقدح في نبوة الأنبياء في بني إسرائيل ، وكثيراً ما نراهم يتهمون أنبياءهم بما لا يليق أبداً بالأنبياء ، والعلة في ذلك أن الذي يسرف على نفسه وهو تابع لدين يريد أنْ يلتمس فيمن جاءه بهذا الدين شيئاً من النقيصة ليبرر إسرافه هو على نفسه ، من هنا اتهموا أنبياءهم وخاضوا في أعراضهم .