Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 38, Ayat: 36-39)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال سبحانه : { فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ … } [ ص : 36 ] وكان تسخير الريح لسليمان أول نعمة أضيفتْ إلى ملكه لم تكُنْ موجودة من قبل ، ومعنى { رُخَآءً … } [ ص : 36 ] أي : لينة ناعمة كالمطية التي تمشي براكبها مَشْياً هادئاً لا تزعجه ولا توقعه . إلا أن بعض المفسرين قالوا إن كلمة رخاء تتعارض مع قوله تعالى في نفس القصة : { ٱلرِّيحَ عَاصِفَةً … } [ الأنبياء : 81 ] ونقول : هي بالفعل عاصفة ، لكن في موقف آخر لأن الريح في القصة لها عدة استعمالات ، فالريح إنْ كانت تحمله للنزهة فهي رُخاء لينة ، وإنْ كانت لحمل الأشياء فهي عاصفة ، إذن : فالجهة في الوصف مُنفكَّة . وقلنا : إن الريح إنْ جاءت هكذا مفردة فهي للعذاب ، كما في قوله تعالى : { وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَٱلرَّمِيمِ } [ الذاريات : 41 - 42 ] فإنْ كانت جَمْعاً فهي للخير كما في : { وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ … } [ الحجر : 22 ] . ومعلوم أن الهواء هو الذي يحفظ توازن الأشياء ، بدليل أننا لو فرَّغْنَا الهواء من جهة من جهات عمارة مثلاً ، فإنها تنهار في نفس الجهة ، لأن الهواء هو الذي يسندها ويحفظ توازنها . فإذا أراد الله تعالى أن يدمر بالريح أتى به من جهة واحدة . فكأن الحق سبحانه يقول : الريح المفروض أنه لا يأتي إلا في العذاب والنقمة ، لكن سخرته لسليمان بحيث لا يأتي معه إلا بالخير { فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ } [ ص : 36 ] . وقوله : { حَيْثُ أَصَابَ } [ ص : 36 ] حيث قصد وأنّى ذهب . وهذا يعني أن سليمان خاطب الريح التي لا لغةَ لها لكن فهمه الله ، فكأنه أصبح آمراً والريح مأمورة ، إذن : فهمتْ عنه الريح ، فالحق سبحانه جعل لكل جنس من الأجناس لغته التي يتخاطب بها في بني جنسه ، فإذا فَهَّم الله إنساناً هذه اللغة فهمها وتخاطب بها مع هذه الأجناس . ومن ذلك قوله تعالى : { عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ … } [ النمل : 16 ] . لذلك حدثونا عن التماسيح في أعالي النيل ، وعن الانسجام والتكامل بينها وبين الطيور التي تتغذَّى على الفضلات التي بين أسنان التمساح ، فالتمساح بعد تناول طعامه يخرج إلى اليابسة ثم يفتح فمه ، فيأتي الطير وينقر ما بين أسنان التمساح فينظفها له ، فإذا أحسَّ الطير بقدوم الصياد صوّت صوتاً خاصاً يعرفه التمساح ، فيسرع إلى الماء وينجو من الصياد ، وهكذا يكون التمساح مُقوِّمَ حياة للطير ، والطير مُبقى حياة بالنسبة للتمساح ، فتأمل الجزاء الأوْفى ، كيف يوجد في عالم الطير والحيوان ؟ ولا يصل إلى مرتبة الفهم عن الطير والحيوان إلا مَنْ أعطاه الله هذه الخصوصية ، وقد أعطى الله هذه الخصوصية لسيدنا سليمان ، ففهم لغة الطير ولغة النمل : { قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِينَ } [ النمل : 18 - 19 ] . إذن : فهم عنها سليمان ، وأحسَّ أن هذه نعمة اختصَّه الله بها وتستوجب الشكر ، كذلك فهم عن الهدهد وخاطبه ودار بينهما حوار ، وقصة الهدهد مع سليمان تدلنا على أن كلّ مَنْ يلي أمراً عليه أن يتابعه متابعةً ، يعرف بها الملتزم من غير الملتزم . ولولا أن سليمان تفقَّد الطير ما عرف بغياب الهدهد . وقوله : { مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ … } [ النمل : 20 ] كأنه تصوَّر أن الهدهد موجود ، لكن المانع عنده هو أنْ يراه لذلك قال : { أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَآئِبِينَ } [ النمل : 20 ] لأنه نظر فلم يَرَهُ ، ثم جاء الهدهد وقال : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [ النمل : 22 - 23 ] . والذي أثَّر في نفسه أن تعبد هي وقومها الشمسَ من دون الله { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ } [ النمل : 24 ] . وهذه اللقطة من القصة تعلمنا أن الذي يلي أمراً لا يرد مَنْ وُلِّيَ عليه في أمر يشير به ، بل ينتظر حتى يسمع منه ، ويحترم رأيه لا يصادره ، ونتعلم أيضاً أن الهدهد كان يعلم قضية التوحيد وقضية الإيمان بالله . ثم يُعلِّمنا الهدهد أن كل إنسان عليه أنْ يحافظ على مُقوِّم حياته ، وأنْ يظل دائماً على باله إنْ أراد أنْ يعيش عيشةً كريمة ، فمُقوِّم الحياة هو الأَوْلَى قبل التخطيط ورسم الأهداف ، نفهم هذا من قول الهدهد : { أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } [ النمل : 25 ] . لكن لماذا خَصَّ الخبأ ، وهو المخبوء تحت الأرض ؟ قالوا : لأن غالب غذاء الهدهد مما خُبئ في الأرض ، لذلك جعل الله له منقاراً طويلاً ينقر به الأرض ، ويُخرِج به غذاءه . وقوله تعالى : { وَٱلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ } [ ص : 37 ] أي : وسخَّرنا أيضاً له الشياطين ، منهم البنَّاء وهو الذي يعمل ويجهد طاقته في يابسة الأرض ويعمرها . والغواص مَنْ يجهد طاقته في البحر ليخرج نفائسه { وَآخَرِينَ … } [ ص : 38 ] أي : من الشياطين { مُقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ } [ ص : 38 ] أي : مقيدين ومكبَّلين بالسلاسل . والأصفاد جمع : صفد وهو السلسلة . فهؤلاء مقيدون ليسوا مُطلقين كالبنَّاء والغوَّاص ، لكن لماذا قيَّد اللهُ هؤلاء ، وأطلق هؤلاء ؟ قالوا : لأن منهم الصالحين الطائعين ، ومنهم العصاة الذين تأبَّوْا على منهج الله ، ومن الممكن أنْ يتأبَّى أيضاً على رسول الله ، وهؤلاء هم الذين يُقيِّدون بالسلاسل ، فكأن الصالحين يخدمونه بتوجيه الإيمان ، وغير الصالحين يخدمونه بتوجيه القيود والسلاسل ، يعني هؤلاء بالرغبة وهؤلاء بالرهبة . ثم يقول سبحانه : { هَـٰذَا عَطَآؤُنَا … } [ ص : 39 ] فالعطاء مناسب لطلب سليمان حين طلب من الله مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، قال : { إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ } [ ص : 35 ] فردَّ الله عليه { هَـٰذَا عَطَآؤُنَا … } [ ص : 39 ] وما دمت قد وهبتك فسوف أجعلك تتصرف فيما وهبته لك لأنني أمنَّتك { فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ ص : 39 ] يعني : أنت حر في أنْ تعطي أو أنْ تمسكَ وتمنع . والحق سبحانه لم يجعل لسليمان طلاقة التصرُّف ، إلا لأنه ضمن منه عدالة التصرف ، لأن سليمان حين طلب الملْك الواسع تعهَّد لله تعالى بهذه العدالة ، لذلك قالوا عنه - عليه السلام - إنه كان لا يأكل إلا خشكار الحب يعني الردَّة أو النخالة ، ويترك الصافي للعبيد ولعامة الناس . فكأنه لم يطلب النعمة والملْك الواسع ليتنعم هو به ، أو يتباهى ، إنما طلبه ليسخره في خدمة الدعوة إلى الله ، ولأنه سيجابه قوةً كانت أعظمَ القُوَى في هذا الوقت ، ويكفي أن الله تعالى وصف هذه القوة بقوله : { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [ النمل : 23 ] أي : بلقيس . وهنا وفي هذه المواجهة سيظهر أثر الملْك وقيمته ، فلما أغرتْه بلقيس بالمال قال : { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ ٱللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } [ النمل : 36 ] . وهنا تظهر الحكمة في أن سليمان حين طلب ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، طلبه حتى لا يتميَّز عليه أحد ، ولا يحاول أنْ يُغريه أو يرشيه ، أو يستميله بالمال ، كما حاولت بلقيس بملْكها الواسع في اليمن السعيد في ذلك الوقت . والذي دلَّ على حصافة بلقيس في هذا الموقف أنها استشارتْ أعيان القوم وأشرافهم وذوي الرأي عندها : { قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } [ النمل : 29 - 30 ] . أولاً : كيف عرفتْ أنه كتاب كريم ؟ قالوا : لأنها وجدته في مخدعها دون أنْ يأتي به رسول ، أو يدخل به أحد ، ولم يمنعه حراس ، ولم يطلب استئذاناً عليها ، لذلك علمتْ أنه من جهة أعلى منها ، ولا بُدَّ أن حركة صاحب الكتاب في الحياة أقوى من حركتها ، بدليل أن الكتاب وصلها بهذه الطريقة ، لذلك استشارت القوم { مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ } [ النمل : 32 ] . وانتهت القصة بقولها : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ النمل : 44 ] . إذن : دَلّ قوله تعالى { هَـٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ ص : 39 ] على أن عطاء الله للأنبياء ليس للتباهي والتفاخر ، إنما هو عطاء لخدم الدعوة إلى الله لذلك نرى الذين ملّكهم اللهُ بعضَ مفاتيح الغيب لم يستغلوا معرفة الغيب لصالحهم ، وربما جَرَتْ المعجزةُ على أيديهم أو على ألسنتهم ، وهم لا يدرون بها ، وتظهر منهم الكرامات وهم أنفسهم لا يعرفونها ولا يشعرون بها . ذلك لأن سِرَّ الله وهبه لهم ، لا ليتعالوْا به على الناس ، إنما ليزدادوا هم عبوديةً واستطراقاً في العبودية لله تعالى ، وليكونوا نماذج لهداية الخَلْق والأخذ بأيديهم إلى طريق الحق . لذلك يُرْوى أن سيدنا عمر - رضي الله عنه - لما امتنع الغيثُ وأجدبت الأرضُ خرج يستسقي ، وأخرج الضعفاء من الأطفال والشيوخ والنساء حتى أخرج البهائم وكأنه يقول يا رب إنْ كنتَ قد منعت عنَّا المطر لذنوبنا فاسْقِنَا لأجل هؤلاء ، لكن لم تمطر السماء وهَمَّ عمر بالانصراف ، وبينما هو قافل إذ وجد عبداً واقفاً بين الصخور يرفع يديه ويشخص ببصره إلى السماء ، قال عمر : فو الله ما وضع يديه حتى أمطرت السماء كأفواه القِرَب . وعندها تعجب سيدنا عمر كيف أن السماء لم تستجبْ له واستجابتْ لهذا العبد ، وتأمل عمر وجه العبد حتى عرفه ، وذهب إلى النخَّاس ، وقال له : اعرض عليَّ عبيدك ، فظن النخَّاس أنه يريد الشراء ، فعرض عليه أفضل ما عنده من أصحاب العضلات المفتولة والقوام السليم ، لكن لم يلتفت عمر إلى واحد من هؤلاء ، فقال الرجل : والله ما عندي غير هذا العبد وهو كَلٌّ على مولاه أينما توجَّه لا يأتي بخير . فلما جاء العبد عرفه عمر ، وقال له : أهذا أنت ؟ فنظر إليه العبد ورفع بصره إلى السماء وقال : اللهم كما فضحتني بين خَلْقك فخُذْني غير مفتون ومضى لحاله . هكذا حال مَنْ تظهر منه الوَلاية والكرامة ، لا يرضى بها ولا يحب أنْ تنكشف أمام الناس ، فهو لا يريدها ويكفيه وُدُّ الله له بها .