Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 38, Ayat: 35-35)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه الآية تعطينا لقطةً من لقطات قصة سيدنا سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، ولسيدنا سليمان في قَصَصه لقطات متعددة ، كل لقطة تمثل عبرةً من العبر ، وعظةً من العظات ، وموقفاً من مواقف سيدنا سليمان في أمر دعوته . وأول لقطة في القصة مع أبيه داود - عليه السلام - حينما حكم في الحرث أي : الزرع ، وكان الزرع لرجل فجاءت غنم رجل آخر فأكلت الزرع ، وقد حكى لنا الحق سبحانه قصة الحكم الذي حكمه داود ، والأمر الذي انتهى إليه الحكم من استدراك على حكم داود من كلام ولده سليمان . وصوَّبَ الله الحكمين ، وقال سبحانه : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي ٱلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ ٱلْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً … } [ الأنبياء : 78 - 79 ] . معنى : { نَفَشَتْ فِيهِ … } [ الأنبياء : 78 ] يعني : انتشرت فيه الغنم وأكلته ، فلمَّا عُرِض الأمر على داود قضى بأنْ يأخذَ صاحبُ الزرع الغنَم . فلما علم سليمان بهذا الحكم ردَّه . وقال : بل نعطي الأرض لصاحب الغنم ليزرعها حتى تعود كما كانت ، ونعطي الغنم لصاحب الأرض يستفيد منها ، ثم يعود كل حقٍّ إلى صاحبه ، فكأن الله تعالى ألهم سليمان صحة الحكم ليستدرك على أبيه داود ، فانظر كيف كانت قداسة كلمة السماء مع كلمة أهل الأرض ، وبعد ذلك صوَّب الله تعالى الحكمين ، وقال { وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً … } [ الأنبياء : 79 ] . إذن : فاستدراك هيئة تحكم على هيئة حكمت ليس عيباً في الأولى ، وإنما هذا فهم فَهْماً حكم بمقتضاه ، وذلك فَهم فَهْماً آخر حكم بمقتضاه ، لذلك نجد في المحاكم الحكم الابتدائي والاستئنافي ، وبعد ذلك حكم النقض ، فهل حكم الاستئناف يطعن في الحكم الابتدائي ، أو حكم النقض يطعن في حكم الاستئناف ؟ لا ، لأن الحكم الأعلى يراعي شيئاً فاتَ صاحب الحكم الأدنى ، فلا غضاضةَ في هذا . ونحن حين نستعرض القصة نجد المفسرين لم يُظهروا لنا حجة داود في الحكم الذي قضى به ، ولا حجة سليمان في الحكم الذي قضى به ، وبالاستقراء . قلنا : الزرع قديماً لم يكُنْ في أرض محكرة مملوكة للناس ، إنما كانت الأرض على المشاع ، ففي أي مكان تبذر الحب وتسقيه السماء حتى يثمر فتأخذه ثمره دون أنْ تمتلك أرضه ، يعني : من سبق إلى أيِّ حقل زرعه . إذن : الملكية كانت للزرع فحسب لا للأرض ، فعلى هذا قام حكم سيدنا داود ، وما دامت الأرض ليست مملوكة لصاحب الزرع فالمسألة زرع وغنم . أما سيدنا سليمان فرأى أن الزرع يمثل كما نقول وَضْع يد على الأرض ، ووَضع اليد يبيح الملكية ، فأبقى لصاحب الملك ملكه في الأرض ، فحكم بأنْ يأخذ صاحبُ الأرض الغنم ينتفع بها وأن يأخذ صاحب الغنم الأرض يزرعها إلى أنْ تعود كما كانت ، ثم يأخذ كل منهما ماله . إذن : كان لكل منهما مَلْحظ ، وبناءً عليه حكم لذلك فقال تعالى في حقهما : { وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً … } [ الأنبياء : 79 ] . اللقطة الأخرى هي الفتنة التي وقعتْ لسيدنا سليمان ، وقلنا : إن الأصل في كلمة الفتنة هي صَهْر المعدن وإحراقه في النار ليخرج منه الخَبَث والشوائب ، فيصير نقياً وتزداد صلابته ، ثم أُطْلِقَتْ الفتنة على مطلق الامتحان الذي يُميِّز الجيد من الرديء في البشر ، فهي بمعنى الابتلاء . ولو نظرتَ إلى الفتنة لوجدتها شائعة في خَلْق الله جميعاً ، فكل واحد من الخَلْق فاتن ومفتون ، بمعنى أن الغني فتنة للفقير ، والفقير فتنة وابتلاء للغني ، فالغني يُبتلَى بالفقير ، أيضنّ عليه بالنعمة أم يعطيه منها ؟ أيحتقره لفقره أم يحترم قدر الله فيه ؟ كذلك يبتلي الفقير بالغني ، أيحسده لغناه ويعترض على قدر الله بالفقر ؟ أم يصبر ويتمنى الزيادة لغيره . كذلك الحال في القوي والضعيف ، وفي الصحيح والسقيم ، وفي الجاهل والمتعلم … إلخ ، إذن : كلٌّ مِنَّا فاتنٌ ومفتون ، المهم مَنْ يفوز ، ومن ينجح في هذا الابتلاء ؟ وهذا المعنى أوضحه الحق سبحانه في قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً … } [ الفرقان : 20 ] قالوا : كلمة بعض هنا ليستْ تحديداً لشخص بعينه ، إنما هي جزء من كل متساو ، لكن مُبْهم فيه ، كما في قوله تعالى : { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً … } [ الزخرف : 32 ] . فأيُّنا مرفوع وأيُّنا مرفوع عليه ؟ قالوا : كل منَّا مرفوع في شيء ومرفوع عليه في شيء آخر ، فالناس كلهم إذن سواء ، أنت لك مجال تجيده وتبدع فيه ، فأنت مرفوع في هذا المجال ، ولك مجال آخر لا تجيده ولا تعرف فيه شيئاً ، فغيرك مرفوع عليك فيه ، لأنه يُجيد ما لا تجيده أنت . وهذه المسألة تأتي من استطراق المواهب في الخَلْق ، لأنهم جميعاً عباد الله ، وليس منهم مَنْ هو ابن الله ، ولا مَنْ بينه وبين الله قرابة أو نسب ، لذلك نثر الحق سبحانه فضله على عباده جميعاً ، ووزّع بينهم المواهب بالتساوي لأن الله تعالى لو جعل إنساناً مجمعَ خير وفضائل ما احتاجَ أحدٌ إلى أحد . والله يريد للعباد أن تتشابك أيديهم ، وأنْ يتعاونوا في حركة الحياة ، فالقوي يحتاج للضعيف ، والضعيف يحتاج للقوي ، العَالِم يحتاج للجاهل ، والجاهل يحتاج للمتعلم . وهكذا يرتبط الناس ارتباطَ حاجةٍ ، لا ارتباطَ تفضُّل . وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة بالباشا أو العظيم الذي يعود من عمله ، فيجد مجاري البيت مسدودة ، ويشم في بيته رائحة كريهة ، فيسرع إلى عامل المجاري لينقذ الموقف ، وربما ركب سيارته وذهب إليه في مكان عمله ، بل وترجاه أنْ يأتي معه ، فالعامل في هذه الحالة مرفوع ، والباشا مرفوع عليه . وأذكر زمان عندنا في ميت غمر في بورصة مقهى اسمها باباه ، العمال هناك عملوا ثورة وقالوا : لا يصح أن العامل يخدم غيره ، ولا يصح أنْ يمسح أحذية الخَلْق ، لماذا يا ناس ؟ قالوا : لأن في ذلك مهانةً ومَذَلةً فقلنا لهم : إذن نمسح نحن لأنفسنا ، وفعلاً عملنا إضراباً واشترى كل منا علبة ورنيش ، وصار يمسح الحذاء لنفسه ، وبعد فترة جاء هؤلاء إلى البورصة وضَجُّوا من البطالة وقِلَّة الرزق ، وراحوا يرجُونَ الناس العودة إلى ما كانوا عليه . بعدها ناقشناهم . وقال بعض الإخوان لأحدهم : بالله أنت حين تسألني سؤالاً وأجيبك عليه : هل آخذ منك جُعْلاً على الإجابة ؟ قال : لا ، لو عرفت كم كلفني هذا الجواب من عمري وجدِّي واجتهادي ، ومن تعب أهلي في تربيتي لعرفت أنني كنتُ أيامها مُسخَّراً لك كما أنك مُسخَّر لي الآن ، لكنكم نظرتُمْ لنا في وقت راحتنا ، ونظرتم إلى أنفسكم وقت عملكم ، إذن : القسمة متساوية وكُلٌّ منا مُسخَّر للآخر ، والمسألة ليس فيها إهانة ولا مَذلَّة ، بل هو التكامل في حركة الحياة . لذلك قال الحق سبحانه بعدها : { أَتَصْبِرُونَ … } [ الفرقان : 20 ] يعني : أتصبرون على فتنة بعضكم ببعض ، حتى الرسل فُتِنوا بالكفار يؤذونهم ويضطهدونهم ، وفُتِن الكفار بالرسل . إذن : من النعم أن الله تعالى وزَّعَ المواهب في الكون كله ، ووزَّع فضله على الخَلْق { فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ … } [ النحل : 71 ] . نعود إلى سيدنا سليمان ونقول : ما يدرينا أن الملْك والنبوة معاً أغرت سليمان ، فوجد في نفسه شيئاً من ذلك ، فأراد الله أنْ يُصحح له خواطره في نفسه ، لأنه يريده لمهمة أعلى مما هو فيه الآن لذلك مَرَّ بهذه التجربة ، ووجد نفسه على كرسيه جسداً لا يستطيع الحركة . لذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان دائماً مُؤدَّباً مع ربه ومع الخَلْق ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : " اللهم إني أستغفرك من كل عمل أردتُ به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك " . معنى هذا أن الأنبياء يمكن أنْ يخالطهم شيء ، وأنهم يمكن أنْ يُبْتَلُوا ، لكن ممن يكون الابتلاء من الله الذي أرسلهم ، والابتلاء يكون تصحيحاً لمسار المبتلَى ، وليس كرهاً له لا سمحَ الله . كذلك ابتلى اللهُ سيدنا سليمان ، لأنه يعده لأمر أسمى من هذا ، هو ملْك في ظاهر الملك ، إنما ربه يريد أن يُعدِّه ليعطيه شيئاً من الملكوت . لما عاد سليمان - عليه السلام - وأناب إلى ربه ، قال { رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ } [ ص : 35 ] يعني : استغفر ربه مما وقع فيه من الغرور . يعني : ربِّ اغفر لي ما سبَّب أن تجعلني جسداً . وكأنه قال : يا رب ، لقد ابتليتني بالملك والنبوة ، وهذه مسألة لم تحدث لأحد من قبلي فاغتررت بها ، فهَبْ لي مُلْكاً أعظم منه لا ينبغي لأحد من بعدي وسوف أوفي هذه المرة ولن أغتر ، وكأنه يقول لربه : يا ربّ جربني وأعطني فرصة أخرى ، فلما دعا سليمان هذا الدعاء أجابه ربه وأعطاه ما طلب . لذلك احترم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة أخيه سليمان ، فقد ورد في الحديث الشريف " أن الشيطان عَرض لرسول الله وهو يصلي ليشغله عن صلاة ، فأمسك به رسول الله وهَمَّ أنْ يربطه في سارية المسجد يلهو به صبيان المدينة ، لكنه صلى الله عليه وسلم تذكّر دعاء أخيه سليمان { رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ … } فلم يفعل تقديراً لسليمان عليه السلام " . ومعنى { ٱلْوَهَّابُ } [ ص : 35 ] صيغة مبالغة ، تدل على كثرة الوهب وقلنا : الهبة عطاء بلا مقابل ، والمعنى أن من ضمن ما تهبه يا رب الملك ، وهذا يعني أن الملْك لا يناله أحد بمجهوده ومهارته ، إنما هو هبة من الله ، فالله هو الذي يهَبُ الملْك ووهبه حتى للكافر الذي حَاجّ إبراهيم في ربه ، كما قال سبحانه : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ … } [ البقرة : 258 ] . وقال سبحانه : { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ … } [ آل عمران : 26 ] .