Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 38, Ayat: 45-47)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هنا أيضاً واذكر أي : بالحمد والثناء عبادنا جمع عبد وقلنا : إن العبودية ممقوتة إنْ كانت للبشر ، لكن العبودية لله عِزٌّ وشرف إبراهيم هو أبو الأنبياء وإسحاق وهبه الله لإبراهيم بعد أنْ أسلم الحكم لله حين أمره بذبح ولده إسماعيل ويعقوب هو ابن إسحاق . وقد وقفنا على قصة هؤلاء الأنبياء في قوله تعالى على لسان إبراهيم يقول لولده إسماعيل : { يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ … } [ الصافات : 102 ] فلم يشأ إبراهيم أنْ يقبل على ذَبْح ولده قبل أنْ يُبيِّن له الأمر الذي صدر إليه ، ذلك لأنه أشفق عليه أنْ يأخذه على غِرَّة فيمتلئ قلب الولد على أبيه حقداً لأنه لا يعرف الحكمة من قَتْل أبيه له ، ثم أراد أن يشرك ولده معه في التسليم لله وألاّ يحرمه الأجر . لذلك قال تعالى : { فَلَمَّا أَسْلَمَا … } [ الصافات : 103 ] يعني : إبراهيم وإسماعيل { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ … } [ الصافات : 103 - 105 ] أي : استسلمتَ واستسلم ولدك ، إذن ارفع يدك { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ } [ الصافات : 107 - 113 ] . إذن : جاء إسحاق وجاء من بعده يعقوب نتيجة لتسليم إبراهيم وانصياعه لأمر ربه في ذبح إسماعيل ، فأبقى على إسماعيل ، ووهب إسحاق ويعقوب زيادةً وفضلاً من الله لأن الحق سبحانه لا يريد بالابتلاء أنْ يعذِّب الناس . لذلك قلنا : إن لسيدنا إبراهيم فضلاً على كل مسلم ، وجميلاً في عنق كل مؤمن ، لماذا ؟ لأن مسألة الذبح لو نُفِّذت في إسماعيل لصارتْ ابتلاءً من الله للإنسان بأنْ يتقرَّب إلى الله بذبح ولده ، لكن سيدنا إبراهيم بإيمانه وتسليمه الأمر والحكم لله تحمل عنّا هذه المسألة ، ورفع عنا هذا الحكم ، وإلا صارتْ المسألة نُسُكاً وعبادة لازمة لكل مؤمن من بعده ، وصدق القائل : @ سَلَّمْ لِرَبِّك حكْمَهُ فَلِحِكْمَةٍ يَقْضِيه حَتَّى تَسْتَريحَ وتغْنَما وَاذْكُرْ خليلَ الله في ذَبْحِ ابْنِهِ إذْ قالَ خالِقُهُ فَلَمَّا أسْلَمَا @@ ونتعلم من هذه المسألة أن كل أمر أو حدث يُسيء الإنسان في ظاهره ويتعبه ويعتبره الإنسان مصيبةً لا ينبغي أنْ ننظر إليه مُنفصلاً عن فاعله ، لكن يجب أنْ نأخذَ الحدث بضميمة مَنْ أحدثه لأن الحكم على الحدث يتغير بالنظر إلى الفاعل . وأوضحنا هذه المسألة وقلنا : هَبْ أن ولدك دخل عليك ، والدم يسيل من وجهه ، فإنك لا تهتم بالإصابة بقدر ما تهتم بالفاعل ، فأول سؤال تسأله : مَنْ فعل بك هذا ؟ ثم تنتظر أن تسمع اسم الفاعل ، فإنْ قال الولد : عمي ضربني فإنك ستهدأ وتقول : لا بُدَّ أنك فعلتَ شيئاً استوجبَ أنْ يضربك عمك ، لكن إنْ قال لك : فلان خاصة إنْ كان عدواً لك ، فإنك تقيم الدنيا ولا تقعدها . إذن : لا يمكن أنْ تحكم على الفعل بالخير أو الشر إلا بنسبته إلى فاعله لأنه بنسبة الفعل إلى فاعل تتمحض الخيرية فيه أو يتمحَّض الشرُّ فيه . ومعنى { أُوْلِي ٱلأَيْدِي وَٱلأَبْصَارِ } [ ص : 45 ] أصحاب الأيدي وهي جمع يد ، وتُطلَق اليد على الجارحة المعروفة ، وتُطلَق على ما تأتي به الجارحة من فعل ، تقول : فلان له يد عليَّ يعني : فضل وجميل ، ولأن أغلب الأفعال تُزَاوَلُ باليد سُمِّيَتْ النعمة التي تصل بطريق اليد باسم هذه الجارحة الفاعلة ، ومن ذلك قوْل القائل : @ له أيادٍ عليَّ سابغة أعدّ منها ولا أعددها @@ وفَرْق بين الحركة الفاعلة التي تقوم بالفعل ، ومعنى آخر في الحركة الفاعلة هو ما يُوجب عليك الحركة ، مثلاً حين نريد البَذْل والعطاء ، فمَنْ عنده مال يبذل ويعطي بيده ، أما المعدم فلا يعطي إنما ينصح مَنْ عنده المال بأنْ يبذلَ منه . يقول تعالى : { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ … } [ التوبة : 91 ] . فالعمل هنا ليس باليد إنما باللسان ، لكن لما كانتْ اليد هي الآلة التي نباشر بها أكثر الأعمال نسبنا كلَّ خير يتعدَّى منك إلى غيرك نسبناه إلى اليد لذلك يقول سبحانه : { يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ … } [ الفتح : 10 ] . فإذا كان الإنسان غير واجد للمال ، وغير قادر على النصح باللسان ، فإن الله تعالى لا يحرمه أبداً من العمل الصالح في البذل ، ويكتفي منه بأنْ يفرح بمَنْ يبذل ويسعده العطاء من غيره . ومثال ذلك : الرجل الذي سمعوه يدعو عند الكعبة يقول : اللهم إنك تعلم أنِّي عاصيك ، لكن أحب مَنْ يطيعك . والأصمعي يسمع رجلاً عند الملتزم يدعو ويقول : يا رب أنا أعلم أني عاصيك وأستحي وأنا عاصيك أنْ أطلب منك ، لكن لا إله إلا أنت ، فلمن أذهب فقال له : يا هذا ، إن ربك يغفر لك لحُسْن مسألتك . ومعلوم أن المؤمن يجتهد في الدعاء خاصة عند الملتزم ، ويحاول أن يُحسِن الدعاء ، ويُحسِن المسألة في هذا الموقف . مرتبة أخرى يجعلها الله لغير الواجد حتى لا يُحْرم الأجر في العطاء ، هي أنْ يحزن لأنه لا يجد ما يبذله ، كما جاء في قول الله تعالى : { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ } [ التوبة : 92 ] . فالحق سبحانه لا يحرم مؤمناً أنْ يكون له موقف في البذل ، ولو كان بَذْلاً سلبياً . ومن معاني اليد : القوة كما في قوله تعالى : { يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ … } [ الفتح : 10 ] فالمراد { أُوْلِي ٱلأَيْدِي … } [ ص : 45 ] أي : أصحاب القوة في طاعة الله . و { ٱلأَبْصَارِ } [ ص : 45 ] أي : البصائر في العلم والدين والحكمة ، أما الأبصار بمعنى حَاسَّةِ البصر ، فهي موجودة في الجميع المؤمن وغير المؤمن ، إذن : المراد الأبصار التي ترى ثم تؤدي مهمة أخرى فوق البصر ، وتزيده نوراً على نور . إذن : البصر وحده لا يكفي لأن آيات الله في الكون هي المعطيات ، كما نقول في المسألة الرياضية ، وهذه المعطيات تحتاج إلى بصيرة واعية لتصل بالمعطيات إلى المطلوب ، وهو الإيمان بمَنْ أعطى هذه المعطيات . فالأبصار حينما تنظر في الكون ، وترى معطياته ، وترى آيات الله فيه ، ثم لا تتأثر عقلياً ولا وجدانياً بها ، ولا تلتفت إلى صانعها ومبدعها ، فلا قيمة لهذه الأبصار . فالمعنى { ٱلأَبْصَارِ } [ ص : 45 ] أي : أصحاب البصائر التي شغلتْ العقول والوجدان ، بما تراه من الآيات ، وعلمت أن هذا الكون لا يمكن أنْ يُنْسَب إلا إلى قوة قادرة ظاهرة مسيطرة ، لا يوجد لها شريك ، وإلا لو كان له شريك لظهر أثره ، ولدافع عن حقه في هذا الملْك ، وما دام لم يظهر هذا المعارض ولم يَدَّعِ أحد أنه خلق ، فالقضية تَسْلَم لمن ادعاها . لذلك يقول سبحانه : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] . وقدَّم الأيدي على الأبصار ، لأن عمل الأيدي نتيجة نهائية للبصر ، لأنك تبصر آيات الله في كونه ، وتعرف أنه ربُّ الجميع ، وخالق الجميع ، ورازق الجميع ، فيرقّ قلبك للفقير وتعطيه ، لعلَّكَ تصبح مثله في يوم ما فتجد من يعطيك ، ولا تحقد على واجد وأنت معدم ، لأن خير الواجد سينالك بأيِّ حال . لذلك قال تعالى : { وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [ النساء : 9 ] . ولنعتبر بقوله تعالى : { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً … } [ الكهف : 82 ] . ثم يقول سبحانه : { إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى ٱلدَّارِ } [ ص : 46 ] . أخلصناهم يعني : أعطيناهم شيئاً خالصاً لهم ، والخالصة التي خصصناهم بها هي التي تلفتهم دائماً إلى دار الجزاء وهي الآخرة ، وبهذه الذكرى يظل الإنسان دائماً مُسْتحضراً ثوابَ الطاعة وعقابَ المعصية ، وإذا استحضر الإنسان هذه العاقبة استقام على الطاعة وابتعد عن المعصية . لذلك يقول صلى الله عليه وسلم في بيان هذه المسألة : " … لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " . لماذا نفى عنه الإيمان في هذه اللحظة ؟ قالوا : لأنه غفل عن عاقبة فِعْله غفل عن الجزاء ، فالغفلة هي التي تكسلنا عن الطاعة ، وتُوقِعنا في المعصية ، وتُغرينا بها ، ولو استحضر الإنسانُ العقوبة على المعصية ما وقع فيها . وسبق أنْ ضربنا مثلاً فقلنا : لو أن شاباً عنده شرهٌ جنسي . وقلنا له : سنوفر لك ما تريد ، لكن بعد أنْ تقضي ليلتك سنأخذك إلى هذا الفرن المسجور ، ونضعك فيه لمدة ساعة واحدة ، مثل هذا الشاب ما ظنكم به ؟ لا بُدَّ أنه سيفر من هذه المعصية ، ويهرب منها ، ويزهد فيها ، لماذا ؟ لأنه عاين العاقبة واستحضر الجزاء . كذلك الطالب الذي يجتهد في دروسه ، حتى أنه يهمل في أكله وشربه ، لماذا يفعل ذلك ؟ لأنه استحضر لذة النجاح وشرف التفوق وعُلُوّ المنزلة بين أهله وزملائه ، وفي المقابل الطالب المهمل لا يهمل إلا لأنه غفل عن عاقبة الإهمال وذِلّة الفشل يوم أنْ تظهر نتيجته . فمعنى { ذِكْرَى ٱلدَّارِ } [ ص : 46 ] أي : يظل دائماً على ذِكْر لها يستحضر الثواب على الطاعة ، فيقبل عليها ، ويستحضر العقاب على المَعصية فيفرّ منها . وقوله : { وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ ٱلْمُصْطَفَيْنَ ٱلأَخْيَارِ } [ ص : 47 ] . أي : الذين اصطفيناهم ، ولله تعالى في الخَلْق اصطفاءات يصطفي من الأماكن ، ويصطفي من الأزمنة ما يشاء ، كما اصطفى من الأمكنة الكعبة وبيتَ المقدس ، واصطفى من الأزمنة شهر رمضان كذلك يصطفي من الناس رسلاً ، ويصطفي من الملائكة رسلاً . والاصطفاء ليس تدليلاً للمصطفى ولا محاباة له ، إنما ائتمان المصطفَى على ما يريده من اصطفاه أي المصْطِفي من إشاعة الخير في جنسه ، فاصطفاء الرسل ليس تدليلاً لهم ، إنما الاصطفاء يُحمِّلهم أعباء جسيمة في ذواتهم وأنفسهم وفي أموالهم وأهليهم . كذلك اصطفى رمضان لا لنعبد الله ونطيعه في رمضان وحده ، إنما ليشيع الطاعة في الزمان كله بأنْ تأخذ من رمضان الطاقة اللازمة للعام كله ، إذن : فاصطفاء الزمان أو المكان أو الإنسان أو الملائكة ليس تدليلاً لخَلْق على خَلْق ، إنما لإشاعة الخير في كل الخَلْق للخَلْق . ومعنى { ٱلأَخْيَارِ } [ ص : 47 ] جمع خيِّر . والمعنى : اصطفيناهم لما فيهم من الخيرية ، التي تؤهِّلهم لهذا الاصطفاء .