Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 38, Ayat: 48-48)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
سيدنا إسماعيل معروف لنا جميعاً من خلال قصته مع أبيه إبراهيم ، والخلاف هنا بين العلماء في سيدنا ذي الكفل ، لأن من الرسل مَنْ عدَّهم الله في موكب الرسالات ، لكن لم يذكر لنا إلا أسماءهم وأوصافهم ، وذو الكفل ذُكِر هنا بهذا الوصف . { وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ ٱلْمُصْطَفَيْنَ ٱلأَخْيَارِ } [ ص : 47 ] فاليسع لا نعرف عنه إلا اسمه ، ولم يذكر القرآن مَنْ هو ، ولا متى بُعِث ، ولا إلى مَنْ أرسِل ، ولا المنهج الذي جاء به ، كذلك في ذي الكفل لم يذكر عنه القرآن إلا اسمه ، ووصفه هنا بأنه من المصطفين الأخيار ، وفي سورة الأنبياء قال عنه الحق سبحانه : { وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا ٱلْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [ الأنبياء : 85 - 86 ] . فوُصِف مرةً بأنه من الأخيار ، ومرة بأنه من الصابرين ، ومرة من الصالحين ، ولهذا أدخله الله في رحمته ، وهذه التي جعلت العلماء يختلفون في ذي الكفل ، أهو رسول أم غير رسول ؟ لكن جمهور العلماء على أنه رسول ، بدليل أن الله تعالى سلكه ضمن هؤلاء الرسل . ومما قيل في ذي الكفل أنه في فترة اليسع وفي رسالته أراد أن يستخلفَ على الناس رجلاً بعده ، وأراد أنْ يرى سيرته في الرعية ، وكيف سيتصرف هذا في أخريات حياته ؟ وحين رأى أن قوته عجزتْ عن القيام بأمر الدعوة . وكان من حرصه على الدعوة من بعده أنْ يختبر مَنْ يستخلفه وينظر ما يفعل . فلما جلس اليسع في قومه قال : مَنْ يتقبل مني بثلاث ؟ والباء عادة كما في هذه العبارة تدخل على الثمن ، كما تقول : اشتريتُ كذا بكذا ، والمعنى : مَنْ يتكفل لي بثلاثة أشياء وأستخلفه على القوم ، ثم قال في بيان هذه الثلاث : أنْ يصومَ النهار ، ويقومَ الليل ، ولا يغضبَ . فقام رجل من القوم تزدريه العين وقال : أنا ، فأعاد عليه : أنت تصوم النهار ، وتقوم الليل ، ولا تغضب ؟ قال : نعم ، فردَّه . وفي الغد ، جلس اليسع في مجلسه ، وعرض على القوم مقالته ، فقام الرجل بعينه وقال : أنا ، فعرف اليسع أن الرجل عنده عزيمة وإصرار على القيام بهذه المهمة ، فاستخلفه على القوم . وقد تكلم العلماء في هذه الشروط الثلاثة التي جعلها سيدنا اليسع - عليه السلام - حيثيات الاستخلاف ، قالوا : لأن الذي يصوم النهار يصوم عما أحله الله في غير الصوم ، والذي يصوم عَمَّا أحله الله يصوم من باب أَوْلَى عما حرَّمه الله ، فضمن بذلك بُعْده عن المحرمات ، والذي يقوم الليل ترك راحته وترك التنعُّم ليأنس بربه ، ومَنْ كانت فيه هذه الصفة لا يتخذ الاستخلاف للنعمة والرفاهية إنما يتخذه للقيام بأعبائه ، وإلا لو أراد التنعُّم لَنام الليل مِلْء جفونه . أما عدم الغضب فهي صفة لا بُدَّ أنْ تتوافر في كل مَنْ يسوس الرعية ، أو يجلس في مجلس حكم بين الناس ، ومعلوم أن للرعية أخلاقاً شتى وصفات متباينة ، فلا بُدَّ لمن يتولَّى أمرهم أنْ يكون حليماً لا يغضب لأن الغضب يستر العقل ، فلا يختار بين البدائل ، ولا يُحسن التصرف في الحكومة . لذلك قالوا للقاضي حين يغضب : ردَّ نفسك ، يعني : أنت لا تصلح لمنصب القضاء . إذن : قال ولا تغضب لأن العقل يتأثر بالغضب ، فتختلف موازينه في الحكم ، وتختلف كذلك مَلَكات النفس فلا يصح الحكم . قالوا في مسألة عدم الغضب : إن الشيطان لم يستطع التدخُّل في صيام النهار وقيام الليل ، فأراد أنْ يدخل إليه من ناحية عدم الغضب ، فأرسل إليه ذريته ليُغضبوه فلم يغضب ذو الكفل - عليه السلام - فقال لهم : ارفعوا أيديكم عنه وسأتولى أنا هذا الأمر ، وكان ذو الكفل لا ينام إلا نومةً واحدة في القيلولة ، هي كل ما ينام في الليل والنهار ، وكان يأمر خادمه ألاَّ يدخل أحد عليه في هذا الوقت ، فكان الشيطان يتحيَّن هذا الوقت ، ويطرق على ذي الكفل الباب ، ويُحدث عنده ضجة يقول : أنا رجل ظلمني قومي وفعلوا بي كيت وكيت وأريد أنْ تنصفني منهم . فقال ذو الكفل : أَلاَ تعلم أن هذا الوقت هو الوقت الذي أستريح فيه ، اذهب وتعالَ في وقت أجلس فيه للحكم بينكم ، وأنا أقضي في أمرك . وفي اليوم التالي ، جاء الشيطان وفعل كما فعل بالأمس ، وفي اليوم الثالث وجد الباب مغلقاً فنفذ إلى ذي الكفل بطريقته الخاصة ، قالوا : دخل من كوة في البيت في غفلة من الحارس ، وطرق على ذي الكفل باب مِخْدعه ، فلما رآه قال : كيف دخلتَ ؟ فتلعثم . قال : إذن : أنت هو . أي الشيطان قال : والله لقد احتلنا كثيراً على أنْ نغضبك فلم نفلح ، ثم تركه وانصرف . أما عن خلاف العلماء في رسالة ذي الكفل ، فأنا أريد أنْ أُجلَّ العلماء عن الخلاف في شيء يصح أن نلتقي فيه . قالوا : الكفل من التكفُّل ، كما في قوله تعالى : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا … } [ آل عمران : 37 ] والكِفْل : هو النصير . والذين قالوا برسالته استدلوا على ذلك بأمرين : الأول أن الله ذكره في عداد الرسل ، الآخر : أن اليسع - عليه السلام - استخلفه . والحق سبحانه وتعالى سكت على هذا الاستخلاف ولم يُغيِّره ، وهذا إقرار للاستخلاف وموافقة عليه ، كما وافق الحق سبحانه لموسى - عليه السلام - لما طلب من ربه أن يُؤيِّده بأخيه هارون ، فقال : { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي … } [ القصص : 34 ] . قال آخرون : بل هو رجل متطوع بالدعوة ، فَسَد الناس في زمانه ، ورأى أن هذا الفساد لا يصلحه إلا رجلٌ له عدالة في الحكم ، ونزاهة في القضاء بين الناس ، ورأى في نفسه هذه المواهب ، فعرض على قومه أن يقوم بأمرهم ، وأنْ يسيرَ فيهم بالعدل فوافقوا عليه . إذن : ذو الكفل في رأَي هؤلاء أنه ليس رسولاً ، بل رجل متطوع بمنهج كمنهج الرسل .