Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 38, Ayat: 52-54)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
معنى { قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ } [ ص : 52 ] أي : تقصر الواحدة منهن عينيها فلا تمتد إلى غير مالكها فلا يطمع أحد أن ينظر إليها ، والطرف أو العين لها أثر ولها كلام ولغة ، ومن ذلك قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } [ يوسف : 31 ] إلى أن قال سبحانه حكاية عن يوسف : { قَالَ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلْجَاهِلِينَ } [ يوسف : 33 ] . فالقصة كانت مع امرأة واحدة هي امرأة العزيز ، فكيف يقول هنا { مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ … } [ يوسف : 33 ] و { كَيْدَهُنَّ … } [ يوسف : 33 ] و { أَصْبُ إِلَيْهِنَّ … } [ يوسف : 33 ] هكذا بصيغة الجمع . إذن : لا بُدَّ أنهن ساعةَ رأيْنَهُ نظرتْ إليه كُلٌّ منهن نظرة استدل منها على أنها تهواه ، فالنظرة إذن لغة تحمل كلاماً ، وتُعبِّر عما في نفس صاحبها ، لذلك تكلم يوسف عنهن جميعاً ، لا عن امرأة العزيز وحدها . لذلك لما أراد العزيز أنْ يستدعيه قال : { مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ … } [ يوسف : 50 ] والكلام كان في البداية عن امرأة العزيز . ومن النظرات التي كانت لها دلالاتٌ في أدبنا العربي حُكِي عن أبي دلامة لما دخل على الخليفة وحوله الأعيان ، وأراد الخليفة أنْ يداعبَ أبا دلامة فقال له : يا أبا دُلاَمة ، لتهجونَّ واحداً منا أو لأقتلنَّكَ ، فوقف أبو دلامة يفكر فيما يقوله ، وجعل الحاضرون ينظرون إليه ، كُلٌّ يقول له بالنظرة لا تَهْجُني ، ولك ما تشاء من العطاء ، فواحد يُرغِّبه وواحد يُرهِّبه . وأخيراً ، رأى أبو دلامة أنْ يُرضِيَ الخليفة ويهجو نفسه طمعاً فيما ينتظره من عطاء هؤلاء الأعيان ، وفوجئ الجميع بأبي دلامة يقول : @ أَلاَ أبلغ لديْكَ أبَا دُلاَمَةَ فَلَيْسَ مِنَ الكِرام وَلاَ كَرَامَه إذَا لَبِسَ العِمَامَةَ كَانَ قِرْدًا وَخِنْزِيراً إذَا نَزَعَ العِمَامَه @@ واغتنى أبو دلامة من جراء هذه الدعابة . فمعنى { قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ أَتْرَابٌ } [ ص : 52 ] أيك تَغصّ طرفها عن غير مالكها ، وهذه للخصوصية المطلوبة في المرأة بالذات لأنك تجد الرجل مهما كان سَمْحاً كريماً يجود بكل ما يملك على مَنْ يحب إلا المرأة ، فإنه لا يطيق مجرد أنْ ينظر أحد غيره إليها ، فهذه صفة للمؤمن في الدنيا ، وهي أيضاً صفته في الآخرة . لذلك نقول : إن من عجائب ما يفعله الإيمان بأهله ومن مزاياه ، أنه لا يخلع العقائد من القلوب ولا الاختيار من العقول فحسب ، بل يخلع الاتجاه من العاطفة أيضاً ، وقد رأينا ذلك في قصة المهاجرين والأنصار ، فالإيمان خلع من القلوب الكفرَ ، وخلع من العقول حُبَّ العناد في الاختيار ، ثم خلع أقوى العواطف وهي عاطفة الرجل نحو امرأته . ألم يَقُل الأنصاريُّ لأخيه المهاجر الذي جاء بغير أهله : انظر إلى زوجاتي ، فأيّهنّ أعجبتْكَ أطلقها لتتزوجها أنت . إلى هذه الدرجة فعل الإيمانُ بالمؤمنين الأوائل . ومعنى { أَتْرَابٌ } [ ص : 52 ] أي : متساويات في الحُسْن أو في السنِّ بحيث لا تميز منهن واحدة عن الأخرى ، فكُلُّهن جميلات في سِنٍّ واحدة ، وحُسْن واحد ، وقَوَام واحد لماذا ؟ قالوا : حتى تظل الأعْيُنُ مقصورةً على ما تملك لا يطمع أحدٌ في الأُخْريات ولا ينظر وتزوغ عينه على مَا ليس له ، فلو كانت النساء جميعهن على درجة واحدة ، فَلِم النظر إذن ؟ أو { أَتْرَابٌ } [ ص : 52 ] يعني : مثله ومناسبة له تتقلب له في الصورة التي يحبها . وقوله سبحانه : { هَـٰذَا … } [ ص : 53 ] أي : ما ذكرناه من الجنة ونعيمها ، هذا المذكور كله { مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ ٱلْحِسَابِ } [ ص : 53 ] لكن نوعد ممن ؟ نوعد ممَّنْ يملك إنفاذَ ما وعد به ، نعم لأنه سبحانه القادر العزيز الغالب ، ليس هناك قوة تعانده ، ولا قوة تعارضه فيما يريد . فأنت تَعِد الوعد وفي نيتك الوفاء به ، هذا عند التحمل ، لكن أنت لا تملك عنصراً واحداً من عناصر الوفاء بما وعدتَ ، فيأتي وقت الوفاء فلا تُوفِ لأنه عَرَض لك عارضٌ حال بينك وبينَ الوفاء بما وعدتَ ، أما الحق سبحَانه فوَعْده حق ، لأن له طلاقةَ القدرة . وقوله : { لِيَوْمِ ٱلْحِسَابِ } [ ص : 53 ] أي : حساب المتقين لأن الحساب مطلقاً يشمل المؤمن والكافر والطائع والعاصي ، فالحساب هنا أي حساب أهل الإيمان ، كما قاله سبحانه : { وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ } [ ص : 49 ] . ثم يقول سبحانه : { إِنَّ هَـٰذَا … } [ ص : 54 ] أي : الذي ذكرناه { لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ } [ ص : 54 ] فلم يقُلْ لرزقكم إنما { لَرِزْقُنَا … } [ ص : 54 ] فكأنهم هم الذين يقولون ، وهم الذين يقروون أن ما هم فيه من النعيم باقٍ لا ينفد ، لماذا ؟ لأنهم عاينوا صِْدق الوعد ، وأن الله أدخلهم الجنة على الوَصْف الذي أخبرهم به ، فعلموا أن وعد الله حَقٌّ ، وأن نعيمه خالد بَاقٍ لا يزول . وبعد أنْ تكلَّم الحق سبحانه عن المتقين الأخيار يتكلم بعدها عن الأشرار ، فالصورة الأولى { وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ } [ ص : 49 ] يقابلها : { هَـٰذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ … } .