Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 38, Ayat: 75-75)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المتتبع لهذه القصة يجد أن القرآن استوعبها في سبع سور ، لكن بأسلوب مختلف في كل منها ، فمرة قال : { أَبَىٰ … } [ الحجر : 31 ] ومرة قال : { أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ … } [ البقرة : 34 ] . المسألة الأولى التي أردنا توضيحها في هذه القصة أن الحق سبحانه لم يجعل الجنة التي خرج منها آدم إلى الأرض هي جنة المأوى ، لأنه لم يُخلق للجنة ثم خرج منها بمعصيته ، إنما خُلق آدم للخلافة في الأرض ، وفي أول بلاغ عنه من الله قال تعالى : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً … } [ البقرة : 30 ] . إذن : هو مخلوق للأرض ، ونظراً لأنه أبو البشر جميعاً ، والبشر على صنفين : صنف معصوم هم الرسل ، وصنف غير معصوم هم عامة الناس ، فكان ولا بُدَّ أنْ يتمثّل في آدم ما ثبت للصنفين ، عصى آدم أولاً ، ثم اجتباه ربه وتاب عليه وعصمه الله بعدها ، إذن : لم يَعْص آدم وهو نبي ، إنما عصى قبل النبوة . والحق - سبحانه وتعالى - لما عرض هذه المسألة وقال : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً … } [ البقرة : 30 ] لم يشأ سبحانه بعدالته ورحمته أنْ يُنزِلَ آدم إلى الأرض ليعمرها بغير منهج من المناهج التي تُصلح حركةَ الحياة ، ولم يشأ أنْ يُجرِّب فيه التكليف الأول ، فصنع له قطعة من الأرض فيها كل مقومات الحياة وترفها ، وأسكنه إياها ليدربه على التوجيه والتكليف بافعل ولا تفعل . فأباح له أنْ يأكل من كل ما في هذا البستان إلا شجرة واحدة نهاه عن مجرد الاقتراب منها ، ليمثل له الإباحة فيما أحل والحظر فيما منع ، ثم ذكَّره بعداوة الشيطان له وحذَّر منه ومن وسوسته . لكن أغوى الشيطانُ آدمَ ، فأكل من الشجرة التي نُهِي عنها ، وحدثتْ منه المخالفة التي ترتب عليها ظهور عورته لأول مرة ، وهنا إشارة رمزية إلى أن العورات لا تظهر في المجتمع إلا بمخالفة منهج الله . ثم نقف أيضاً عند { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ … } [ البقرة : 35 ] فلم يقل سبحانه : ولا تأكلا من هذه الشجرة ، بل نهى عن مجرد قربها ، لأن من حام حول الحِمَى يُوشِك أنْ يواقعه . لذلك تجد الحق سبحانه حين يحدثنا عن الحدود التي أحلها الله لنا يقول : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [ البقرة : 229 ] أما في الحدود التي حرّمها فيقول : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا } [ البقرة : 187 ] . ونلحظ في الآية التي معنا قوله تعالى : { يٰإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ … } [ ص : 75 ] وفي الأعراف قال : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ … } [ الأعراف : 12 ] فمرة بالإثبات ومرة بالنفي . والمعنى واحد ، لأن المتكلم بهذا الكلام هو الله رَبُّ العالمين ، معنى { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ … } [ ص : 75 ] يعني : أردتَ أنْ تسجد ، فعرض لك عارض ، أما { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ … } [ الأعراف : 12 ] يعني : أمَنعكَ مانع فلم تسجد قهراً عنك ؟ وقوله : { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ . . } [ ص : 75 ] بيان لشرف هذا المخلوق ، ويكفي في شرفه أن الله تعالى نسب خَلْقه إليه سبحانه مباشرة { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ } [ ص : 75 ] يعني : السبب الذي دعاك إلى عدم السجود إما استكبارك أنْ تسجدَ لآدم ، أم كنتَ من العالين ؟ وقد اختلف العلماء في معنى العالين ، بعضهم قال : من الطاغين المتكبِّرين الذي أعرضوا عن أحكام الله ومنهجه استكباراً ، ومن ذلك قوله تعالى في فرعون : { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي ٱلأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلْمُسْرِفِينَ } [ يونس : 83 ] وقال سبحانه : { تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ القصص : 83 ] أي : عُلُواً على أحكام الله ، وعلى أوامر الله . وقال آخرون : معنى العالين هم نوع من الملائكة ، والذين لم يشملهم الأمر بالسجود لآدم ، فالمأمور بالسجود هم الملائكة الذين لهم علاقة بهذا المخلوق وهم المدبِّرات الذين قال اللهُ عنهم { فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً } [ النازعات : 5 ] والمعقِّبات الذين قال الله فيهم { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ … } [ الرعد : 11 ] هؤلاء هم الذين أمروا بالسجود . أما العَالُون فهم ملائكة لا عملَ لهم إلا تسبيح الله ، ولا صلةَ لهم بهذا الكون ، ولا يدرون عنه شيئاً . فالمعنى { أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ } [ ص : 75 ] أي الذين لم يشملهم الأمر بالسجود ، وهذا المعنى أقرب للصواب ، لأن الله تعالى قال قبلها : { أَسْتَكْبَرْتَ … } [ ص : 75 ] فلا نفسر العالين بعدها بمعنى المتكبرين ، لأنها تؤدي نفس المعنى الأول . وهنا ينبغي أنْ نشيرَ إلى اختلاف العلماء حول طبيعة إبليس ، حيث قال بعضهم : إنه من الملائكة . وقال آخرون : من الجن . أصحاب الرأي الأول يعتمدون على قوله تعالى : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ ص : 71 - 72 ] فقالوا : إذن إبليس من الملائكة لأن الأمر وُجِّه إليهم ، والدليل على ذلك أنه لما خالف وامتنع عن السجود عُوقِب ، فهو إذن داخل في الأمر ، والله سبحانه لم يأمر إلا الملائكة ، فلو لم يكُنْ من الملائكة لم يُعاقَب . ونقول في الرد على أصحاب هذا الرأي : لا بُدَّ أنْ نُفرِّق بين الدليل بالالتزام أو الاستنباط ، وبين دليل النص ، فإذا وُجِدَ نَصٌّ فلا مجالَ لدليل الالتزام أو الاستنباط ، وقد قال الحق سبحانه في سورة الكهف : { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف : 50 ] فكيف تُصرِّح الآية بأنه من الجن ونقول نحن : إنه من الملائكة ؟ أما لماذا آخذه الله على عدم السجود إنْ كان من الجن ؟ نقول : لأن الملائكة مقهورون على الطاعة ، فهي غريزة فيهم { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] أما الإنس والجن فهم مُخيَّرون بين الإيمان أو الكفر ، وبين الطاعة أو المعصية ، فإذا جاء منهم مَنْ ألزم نفسه بالطاعة بحيث لا يعصي فهو أفضل من الملائكة ، لأن الملائكة مقهورون على الطاعة أما هو فطائع باختياره وهو قادر على المعصية . إذن : أخذ هذه الأفضلية ، لأنه حمل نفسه على أن يطيع ، وقد كان إبليس في هذه المنزلة حتى قيل : إنه طاووس الملائكة لأفضليته عليهم ، فلما صدر الأمر للملائكة شمله أيضاً ، لأنه إنْ كان أعلى منزلة من الملائكة وحالة الطاعة ، فكان عليه أنْ يطيعَ الأمر ، وإن كان أقلَّ من الملائكة ، فالأمر للأعلى يستلزم الأمر للأدنى . ومثَّلْنا لهذه المسألة قلنا : إذا دخل رئيس الجمهورية فوقف له الوزراء ، فوقوف وكلاء الوزراء من باب أَوْلَى ، وبذلك نحسم هذا الخلاف بعيداً عن الجدل الذي لا طائل منه . وقوله تعالى : { فَسَجَدَ ٱلْمَلاَئِكَةُ كُـلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ ٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } [ ص : 73 - 74 ] دليل على أنه مخلوق مختار ، كالإنسان يطيع ويعصي ، كما قال تعالى : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ … } [ الكهف : 29 ] . ثم يحكي الحق سبحانه قوْلَ إبليس في الردِّ على ربه عز وجل : { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ … } .