Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 1-1)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فَرْق بين تنزيل وإنزال ونزول النزول هو الحدث الذي يأتي بشيء من أعلى إلى أدنى ، والإنزال يدل على أن الذي أنزل أعلى من المُنزل إليه ، أما التنزيل فيدل على النزول على فترات بحسب الأحوال . فقوله تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [ القدر : 1 ] يعني : أنزلناه جملةً واحدة في أول رسالة محمد ، ليباشر القرآنُ مهمته في الوجود ، ثم نُزِّل بعد ذلك مُنجَّماً حَسْب الحاجة . قال تعالى : { وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً } [ الإسراء : 105 ] . يعني : أنزلناه بالحق بداية ، وظلَّ على الحق لم يستطع أحد أنْ يُغيِّره أو يُفسده لأنه حقٌّ . وهذه المادة نزل أو نزَّل أو أنزل ، تدل كلها على عُلُو المنزِّل ودُنُو المنزل إليه ، وتدل على أن شرف المنزَّل من شرف مَنْ أنزله ، وتدل أيضاً على أن مَنْ أنزل المنهج القويم للمخلوق يريد أنْ يكرمه وأنْ يعلوَ به . إذن : دَلَّ الإنزال على شرف المنزِّل وعلو مكانته ، وعلى شرف ما أُنزل وعلى شرف مَن اختاره الله ، وجعله أهلاً لأنْ يُوجه إليه هذا الخير . ومن ذلك قوله تعالى في أمة محمد : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] . ولما تتبعنا مادة نزل في القرآن الكريم وجدناها كلها تدل على العُلو ، إلا في عدة مواضع لم يكُن الإنزالُ فيها من العلو ، وهو قوله تعالى في سورة الحديد : { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [ الحديد : 25 ] فالحديد لا ينزل من عُلو إنمَا يُستخرج من الأرض ، فلماذا قال الله : { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ } [ الحديد : 25 ] ؟ قالوا : نعم الحديد من الأرض ، لكن مَنْ جعله فيها ؟ الخالق سبحانه ، إذن : فهو أيضاً إنزال أي : جعل له في الأرض ، فلا تنظر إلى جهة الإنزال ، إنما إلى مَنْ أنزل . ثم إن إنزال الحديد تتميمٌ لرسالات الرسل لهداية الخلق إلى منهج السماء ، لأن الله تعالى قال بعدها : { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ } [ الحديد : 25 ] فمن الحديد سنصنع السيوف والرماح وعُدَّة الحرب . كذلك في : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ … } [ الزمر : 6 ] وقوله : { يَٰبَنِيۤ ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ } [ الأعراف : 26 ] . وفي مسألة الإنزال هذه نلحظ لفتة جميلة في أسلوب القرآن الكريم ، في استخدام حرف الجر المتعلق بالفعل أنزل ، وكيف أنه يأتي مناسباً للمعنى المراد من الإنزال ، ففي خطاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول له رَبُّه عز وجل : { نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ } [ آل عمران : 3 ] قال عليك مع أن الكتاب نزل للناس جميعاً { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوۤاْ آيَاتِهِ } [ ص : 29 ] . لكن رُوعي هنا المخاطب المستقبل المبلَّغ عن الله ، لكن لما يتكلم على النعم التي ينتفع الناس بها مباشرة يقول عليكم ثم نلحظ دقة التعبير في استخدام حرف الجر ، قال : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ } [ الزمر : 6 ] وفي اللباس قال : { قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ } [ الأعراف : 26 ] قالوا : لأن اللباس الساتر للبدن يكون على الجسم يلفه ويستره ، فناسبه الحرف على . أما الأنعام فهي شيء مستقل منفصل عن الإنسان . الحق سبحانه وتعالى يعطي من علو ، ولكن الذي يعطي له هو من صنعته أيضاً ، فعلو في خَلْق آدم الخليفة ، وعُلو في المنهج الذي يصونه ، حتى أن بعضهم قال : إن الإنسان خليفة لله في الأرض ، بمعنى أنه مُفَوَّض من الله بالقيام بما أراده الله ، بدليل لو كان هناك محتاج ضَنَّ الناس عليه يقول الله لهم : { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [ البقرة : 245 ] . فسمَّى هذا الإعطاء للفقير قرضاً ، مع أنه سبحانه المعطي الواهب لهذا المال ، لكن لما كان الحق سبحانه هو الخالق ، وهو الذي استدعى الإنسان للوجود وتكفَّل له برزقه ، فاعتبر المال ماله وحقه ، فإنْ بذله فهو قرض لله . ومثَّلنا لذلك - ولله تعالى المثل الأعلى - قلنا : حين تعطي ولدك مصروفه فيجعله في حصالة مثلاً ، ومرَّتْ بك ظروف احتجتَ لما في حصالة الولد فقلت له : سلّفني ما في حصالتك لحين ميسرة . مع أنك صاحب هذا المال . فكأن الحق سبحانه يحترم ملكية العبد ، مع أنها من فضله ، فإنْ طلبها منه طلبها على سبيل القرض . و الكتاب أي : القرآن . فمرة يقول : الكتاب . ومرة : القرآن ، دليل على أنه سيأخذ الوَصْفين معاً ، فهو كتاب بمعنى مسجل ومكتوب يعني لا يُنكر ، وهو قرآن بمعنى مقروء ، فهو مُسجَّل في السطور ومحفوظ في الصدور ، وهذه ستكون حجة علينا . وقد علمنا الدقة التي اتبعها الصحابة في جمع القرآن من صدور الحفظة ، فكانوا لا يكتبون آية إلا إذا قرأها اثنان من الحفظة واتفقا على صحتها ، كذلك يشهد على صحتها اثنان بعد الكتابة ، فدَلَّت هذه الدقة على حيثيات قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] . وكلمة الكتاب هكذا بأل التعريفية تدل على أنه الكتاب الكامل في الكتب ، ولا تنصرف هذه الكلمة إلا إلى القرآن الكريم . وقوله تعالى : { مِنَ ٱللَّهِ } [ الزمر : 1 ] دل على أن التنزيل من أعلى لأدنى ، لكن لماذا قال { مِنَ ٱللَّهِ } [ الزمر : 1 ] ولم يقُل : من الرب ؟ لأن هذا الكتاب جاء بمنهج للتربية ، والرب هو المتولي للخَلْق وللتربية . قالوا : لأن الربوبية عطاء يشمل الجميع المؤمن والكافر ، والطائع والعاصي ، فالرب خلق الجميع الخَلْق المادي وأمدَّ الجميع ، فالكل في عطاء الربوبية سواء . أما المنهج الذي نزل به الكتاب ، فهو منهج إيماني وخُلُقي وتعبُّدي من عطاء الألوهية ، لا من عطاء الربوبية ، لذلك قال في الكتاب : { مِنَ ٱللَّهِ } [ الزمر : 1 ] . والله عَلَم على واجب الوجود ، أما الأسماء الحسنى فهي أوصاف بلغت العظمة لأنها لله تعالى وغلبتْ عليه ، فصارت أسماء قال تعالى : { وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180 ] والجامع لها كلها لفظ الجلالة الله ، فحين تقول الله كأنك ناديتَ الله بجميع أسمائه الحسنى لذلك أمرنا أنْ نبدأ العمل بقول باسم الله ، والعمل يحتاج إلى قوة وإلى علم وإلى حكمة وإلى عزة . . إلخ . فلو كنتَ مُقبلاً على عمل يحتاج إلى عشرين صفة مثلاً فهل تقول : باسم القوي ، باسم العليم ، باسم الحكيم … لا لأن في وُسْعك أن تجمع كلَّ هذه الصفات في قولك باسم الله لأن لفظ الجلالة هي الكلمة الجامعة لكل صفات الكمال ، وتناسب كل ما يحتاجه العمل ، وكل ما يتعلق بالفعل ، مما تعرفه أنت ومما لا تعرفه . لذلك قالوا : إياك أنْ تدعَ هذه الكلمة في بداية العمل ، حتى لو كنتَ عاصياً فلا تَخْزَ من ربك ولا تخجل أنْ تقولها ، ولا تستبعد أنَّ الله يعاونك حتى وأنت عاصيه ، لأن ربك الذي تدعوه وتبدأ عملك باسمه رحمن رحيم ، وهو الذي أمرك أنْ تقولها . إذن : قال سبحانه : { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ } [ الزمر : 1 ] لأن الكتاب نزل بمنهج وقيَم ، ولم يقل : من الرب لأن الربَّ وصفٌ خاص بالمادة وبالقالب . وقوله : { ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } [ الزمر : 1 ] العزيز هو : الغني عن الخَلْق الذي لا تنفعه طاعتهم ، ولا تضره معصيتهم ، وجاء هذا الوصف بعد { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ } [ الزمر : 1 ] لمناسبة ، فكأن الحق سبحانه يقول لنا : اعلموا أنني متطوع بهذا المنهج الذي أنزلته عليكم ، وأريد به سعادتكم في الدنيا ونعيمكم في الآخرة ، أما طاعتكم لمنهجي فلا تزيد في ملكي شيئاً ، لأنني الغني عنكم ، فأنا العزيز عن خَلْقي . لذلك في مسألة الشرك بالله قال تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] . وقال في الحديث القدسي : " أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك به معي غيره تركته وشركه " . يعني : أنا متنازل لهذا الشريك عن العمل كله ، لأني عزيز عن خَلْقي ، لا مصلحة لي من طاعتهم ، إنما المصلحة تعود عليهم هم . إذن : فربُّك خلقك وأنزل عليك ما يصلحك ، فإن أطعْتَهُ أثابك ، لأن لله تعالى صفات ، وهذه الصفات تحتاج إلى متعلقات ، فحين تؤدي هذه المتعلقات لله يجازيك عليها . إذن : قُلْ باسم الله واعلم أنه عزيز عن هذه ، وتذكَّر قوله سبحانه في الحديث القدسي : " يا عبادي ، لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً . ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم وشاهدكم وغائبكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ، ما نقص ذلك من مُلكي شيئاً . يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد ، وسألني كلُّ واحد مسألته فأعطيتُها له ما نقص ذلك من مُلكي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدْخِلَ في البحر ، ذلك أني جَوَادٌ ماجد واجد ، عطائي كلام وعذابي كلام ، إنما أمري لشيء إذا أردته أنْ أقولَ له : كُنْ فيكون " . فالحق سبحانه هو العزيز الذي يَغْلِب ولا يُغلب ، وهو سبحانه يخلع من هذه الصفة على مَنْ يؤمن به ، فللمؤمن عزة من عزة الله ، أما غير المؤمن فيبحث عن عزة بالإثم استكباراً بلا رصيد ، ومن ذلك قول المنافقين . { لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ … } [ المنافقون : 8 ] قال الله لهم : صدقتم في هذه المقولة : ليُخرجن الأعزُّ منها الأذلَّ ، لكن مَن الأعز ؟ ومن الأذل ؟ ثم حكم الحق سبحانه أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين : { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] . إذن : أنتم الأذل ، وأنتم الذين ستخرجون من المدينة لا رسول الله ، وقد تم ذلك لرسول الله ، وقد كان . والحق سبحانه مع أنه { ٱلْعَزِيزِ … } [ الزمر : 1 ] الذي يغلب ولا يُغلب ، فهو سبحانه { ٱلْحَكِيمِ } [ الزمر : 1 ] أي : الذي يضع الشيء في موضعه . ومن هذه الحكمة أنه سبحانه لا يطبع المؤمنَ على العزة الدائمة ، ولا على الذِّلة الدائمة ، كذلك لا يطبعه على الرحمة الدائمة ، ولا على الشدة الدائمة ، بل ينفعل للأحداث الإيمانية ، كما قال سبحانه : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] وقال : { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] . ومع أن هذه طباع في النفس إلا أنها مُعدَّلة بمنهج مَنْ خلقها ، فإنْ كان الموقف يحتاج إلى رحمة فالمؤمن رحيم ، وإنْ كان الموقف يحتاج إلى شدة . فالمؤمن شديد . إذن : هذا مظهر من مظاهر حكمة الخالق سبحانه ، فإنْ قلتَ : هذه طباع ، نعم طباع لكن مُعدَّلة بمنهج مَنْ خلقها . والحكمة مأخوذة من شيء حسِّيٍّ ، مأخوذة من الحَكَمة التي تُوضع في فم الفرس ، والتي نسميها اللجام ، وهو الأداة التي بها نتحكَّم في حركة الفرس ، وفي سرعته واتجاه سَيْره ، وبها نكبح جماحه إنْ جمح .