Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 2-3)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الحق هو الأمر الثابت الذي لا تأتي أغيار الزمن فتنقضه ، وما دام الحق ثابتاً لا يتغير فلا يغرنك عُلُوُّ الباطل إنْ علا يوماً من الأيام لأن عُلُو الباطل من ثبات الحق ، فالباطل حين يعلو يعضُّ الناسَ ، ويشقى به الخَلْقُ ، ويكتوون بناره ، وعندها يتطلعون للحق ويتشوَّقون إليه . فكأن الباطل جندي من جنود الحق ، والكفر جندي من جنود الإيمان . فالله تعالى لا يسلم الحق أبداً ، ولكن يتركه فترة حتى يعلوَ الباطلُ عليه ليبلوَ غيرة الناس عليه ، فإذا لم يغاروا عليه غار هو عليه . { فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ } [ الزمر : 2 ] يعني : ما دُمْنا قد أنزلنا إليك الكتاب بالحق فانظر ماذا في الكتاب ، فيه منهج افعل كذا ولا تفعل كذا ، فيه تكليفٌ للجوارح ، ولابُدَّ أنْ يسبق العمل بالتكليف اقتناعُ القلب بالمكلف والإيمان به . فأنت حين تقف أمام قضية صعبة تعجز عن التفكير فيها ، أو أخذ قرار تذهب إلى مَنْ شُهِد له بالحكمة أو العلم والرأي ليفكر لك ويُعينك على أمرك ، فمثل هذا الرجل تأتمنه وتسلم له زمام أمرك لأن رأيه يصلحك . إذن : لا بُدَّ قبل العمل بافعل ولا تفعل أنْ تثقَ وتتيقن بمن كلَّفك ، وهذا هو الإيمان الذي ينبغي أنْ يسبق العملَ . لذلك نقول : لا ينفع إيمان بلا عمل ولا عمل بلا إيمان ، واقرأ قول الله تعالى : { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 14 ] . لذلك قال تعالى : { فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ } [ الزمر : 2 ] فشرْطُ العبادة الإخلاص ، والعبادة تعني طاعة العابد لأمر معبوده ونَهيه ، وهذا التحديد لمعنى العبادة يُبطل عبادةَ كلِّ ما سِوَى الله تعالى ، فالذين عبدوا غير الله من شمس أو قمر أو نجوم أو أشجار أو أحجار عبدوا آلهة - كما يزعمون - بلا منهج وبلا تكاليف . إذن : فكلمة العبادة هنا خطأ وهي باطلة ، فماذا قالت لهم هذه الآلهة ؟ بِمَ أمرتْهُمْ وعَمَّ نَهَتْهم ؟ ماذا أعدَّتْ هذه الآلهة لمن عبدها ؟ وماذا أعدت لمن كفر بها ؟ فأول ما يُبطل عبادة غير الله أنها آلهة بلا منهج وبلا تكاليف . أما الذين قالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] فالله سبحانه نهى عن هذه الزُّلْفى ، ونهى أنْ يكون بينه وبين عباده واسطة أو وسيلة . ثم إن الحق سبحانه أراد أنْ ينبه الخَلْقَ إلى بديع صُنْعه ، وإلى هذا الكون المكتمل ، وهذه الهندسة الدقيقة في كل جزئياته ، وأن هذا الكون فيه كل مُقوِّمات الحياة وكل الأنواع الواهبة للخير ، فهل ادعاه أحد لنفسه ؟ هل قال أحد : إني خلقتُ هذا الكون مع كثرة الملحدين والمنكرين لوجود الله ؟ لم يحدث أبداً شيء من هذا . إذن : الدعوة تثبت لمدعيها طالما لم يقم لها معارض ، فالله تعالى هو الخالق وحده ، وهو المستحق للعبادة وحده ، وما دونه ضلال وباطل . لذلك قال سبحانه : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] يعني : ذهبوا إليه ليناقشوه كيف أخذ الخَلْق منهم ؟ وكيف ادعاه لنفسه ؟ ومعنى { مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ } [ الزمر : 2 ] يعني : اجعل الدينَ خالصاً لوجه الله ، وامنع الرياء لأن الذي ترائيه لا يملك لك من ثواب العمل شيئاً ، فالمرائي الذي يرائي مثلاً في صدقته ينفع المحتاج بالصدقة ، وهو لا ينتفع بها لأن الله تركه يأخذ أجره مِمَّن يرائيه ، والعبد مثلك لا يملك لك شيئاً . وفَرْق في المعنى بين مُخْلِص بالكسر ، ومُخْلَص بالفتح : المخلَص هو مَنْ يسبق عطاء الله لَه بالإخلاص فيخلص ، أما المخلص فيصل بعطاء إخلاصه إلى عطاء الله . قلنا زمان : من الناس مَنْ يَصل بطاعة الله إلى كرامة الله يعني : ألحَّ في الطاعة وداوم طَرْق الباب حتى فُتِح له . وآخر يصل بكرامة الله إلى طاعة الله ، يعني : ربه يختاره للطاعة ويخطفه من الخلق أو من المعصية إلى الطاعة ، مثل كثيرين من المتصوفة ، ومثال ذلك القاضي عياض رحمه الله ، فقد كان في بداية أمره قاطعَ طريق ، وفي يوم خرج كعادته يقطع الطريق على الناس ، فسمعهم يقولون : لا تمروا من هنا فعياض على هذا الطريق ، نزلت هذه الكلمات على عياض نزولَ الصاعقة ، فكيف يهابه الناس ويخافونه لهذه الدرجة ، فأخذ يُؤنِّب نفسه وعزم على التوبة ، وقال : ياربّ تُبْ عليَّ حتى يأمنَ هؤلاء . فتاب الله عليه . فلما استقام سأله الناس الذين يعرفون حقيقته : ما جرى لك يا عياض ، يعني : كيف صِرْتَ من الأولياء ، بعد أن كنتَ قاطع طريق ؟ . قال : والله إني لأعرف سببها ، لقد مررتُ يوماً بسوق البطيخ - أظن في بغداد - فوجدت ورقة من المصحف ملقاةً على الأرض يدوسها الناس فأخذتها ونظفتُ ما بها من الأذى ، ثم طيَّبتها بدرهم لم يكُنْ معي غيره ، ثم وضعتها في شق عال ، قال : والذي نفسي بيده لقد سمعتُ بعدها منادياً ينادي : لأطيبنَّ اسمك كما طيبتَ اسمي وكانت هذه الحادثة أول عهد عياض بالولاية . لذلك ورد أن النبي صلى الله قال : " " إن الله أخفى ثلاثاً في ثلاث : أخفى رضاه في طاعته " فلا تحقرن طاعةً أبداً ، واعلم أن الله غفر لرجل لأنه سقى كلباً يلهث من العطش ، وهذا العمل يدل على محبة طاعة الله وإلا فماذا يأخذ الرجل من الكلب ؟ أم تراه ينافقه ؟ إذن : ليس إلا حب الطاعة . " وأخفى غضبه في معصيته " فلا تحقِرنَّ معصية أبداً ، وقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها ، فلا هي أطعمتها وسقتها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض . " وأخفى أسراره في خلقه " كما أخفى أمر عياض وتاب عليه " . ثم يقول سبحانه : { أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ } [ الزمر : 3 ] بعد أنْ خاطب الحق سبحانه نبيه بقوله : { فَٱعْبُدِ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدِّينَ } [ الزمر : 2 ] أراد سبحانه أنْ ينبه الأذهان إلى أهمية الإخلاص لله تعالى ، فجاء بهذا الحرف الدال على الاستفتاح ألا . وهذا الأسلوب يتبعه العربي في كلامه ، لأن المتكلم أمير نفسه يتكلم في أيِّ وقت شاء ، وهو يعي ما يقول وله خيار فيما يقول أمَّا السامع فليس له خيار فربما كان مشغولاً عن المتكلم فيفوته بعض الكلام لذلك على المتكلم أنْ ينبهه من غفلته ، وأنْ يُهيِّئه لأنْ يسمع ، لا سيما إنْ كان الكلام مهماً أو نفيساً لا ينبغي أن يفوتك منه شيء لذلك قال سبحانه : { أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ } [ الزمر : 3 ] . ونلحظ أيضاً هنا أسلوبَ القصر في تقديم الجار والمجرور { لِلَّهِ } [ الزمر : 3 ] على المبتدأ الدين الخالص ، فلم يَقُلْ سبحانه الدين الخالص لله ، لأنها تحتمل أن نقول : ولغيره ، أمَّا قوله { لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ } [ الزمر : 3 ] أي : له وحده ، فقصرت إخلاص الدين على الله تعالى دون غيره ، تقول : هذا المال لزيد . ولزيد هذا المال . لكن ، لماذا لله الدين الخالص ؟ قالوا : لأن الدينَ شرعُ الله هو الذي شرعه ، وهو سبحانه الذي يُجازي عليه ، فاحذر إذن أنْ يكون عملك بمنهج الله مقصوداً به غير الله لأن غير الله لم يشرع لك ، ولا يستطيع أنْ يعطيك أجر العمل . فكأن الله تعالى يريد أنْ يُحَصِّن حركة الإنسان في كل شيء ، بحيث تعود عليه كل حركاته بالخير لذلك دَلَّهُ على الطريق الذي يؤدي به إلى الخير ، وهو طريق إخلاص العبادة لله وحده . ثم يذكر سبحانه مقابل إخلاص العبادة لله ، فيقول : { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } [ الزمر : 3 ] قائلين ومبررين موقفهم حين تبيَّن لهم كذبهم في عبادة ما دون الله ، وحين تقول لهم إن هذه الآلهة لا ترى ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع ، وحين تضيق عليهم الخناق يقولون { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] . والذي يُقرِّبك إلى الله لا بُدَّ أنْ يكون مشهوداً بالتبعية لله تعالى ، وهذه الآلهة التي تعبدونها ليست مشهودة بالتبعية لله تعالى ، بل هي من صُنْعكم أنتم ومن نَحْت أيديكم ، وإذا أطاحت به الريح أقمتموه في مكانه ، وإذا كسر ذراعه أصلحتموه . إذن : فعبادتكم لها باطلة ، وأنتم كاذبون في هذه العبادة { إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ الزمر : 3 ] كلمة الحكم لله كلمة ترهب ، لأن حكمَ الله هو الحق الذي لا يُحابي أحداً ، فالمؤمن حين يسمع هذه الكلمة يطمئن ، لأنه سيأتي يوم لا يكون الحكم فيه إلا لله كما قال سبحانه : إن الحكم إلا لله أي : لله وحده لا لغيره ، لذلك أنت لا تقول لخصمك : أنا حكَّمت الله بيني وبينك إلا وأنت واثق أن الحق معك . لذلك يغضب بعض الناس لو قلت لأحدهم : الله وكيل بيني وبينك . ولو كان على الحق لا يخاف شيئاً لقال وأنا رضيتُ هذه الوكالة وقبلتُ بها ، لكن كونه يغضب حين نُحكِّم الله فيما بينكما ، فهذا دليل على أنه يخاف هذا الحكم لأنه على باطل . ثم إن حكم الله سيأتي في وقت لا حكمَ فيه إلا لله { إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ } [ الأنعام : 57 ] . ثم يقول سبحانه : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَـفَّارٌ } [ الزمر : 3 ] نعم لا يهديه الله ، لأن الكاذب الكفَّار ليس أهلاً لعطاء الهداية لأن الله تعالى هدى الكل هدايةَ الدلالة والإرشاد ، فمَنْ آمن منهم زاده هداية المعونة والتوفيق ، قال سبحانه : { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] . وسبق أن ضربنا مثلاً لذلك قلنا : إن رجل المرور الذي يقف على مفترق الطرق ينظم المرور ويرشد الناس ، فحين تسأله أين الطريق إلى الأسكندرية مثلاً يقول لك من هنا ، فتتوجه إلى حيث أرشدك ، وقبل أنْ تفارقه قلت له : جزاك الله خيراً ، لقد كدتُ أضلّ الطريق ، وأذهب من هنا ومن هنا ، لولا أن الله يسَّر لي أنْ أقابلك ، فقال لك : والله أنت رجل طيب تستحق كل خير ، لكن في هذا الطريق منطقة خطر سأركب معك حتى أساعدك في المرور منها . إذن : لما أطعتَهُ في الإرشاد الأول زادكَ بالمعونة والمساعدة ، كذلك الحق - سبحانه وتعالى - مَنْ يستجيب لهداية الدلالة والإرشاد فيؤمن يزيده هداية أخرى ، هي هداية التوفيق والمعونة . والكاذب الكفَّار هو الشديد الكفر الذي لا ينتفع بإرشاد ، ولا هداية .