Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 24-24)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الاستفهام في أفمن مثل سابقه في قوله تعالى : { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ … } [ الزمر : 22 ] لذلك لا بدّ أن نقدر هنا المقابل ، فالمعنى : { أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [ الزمر : 24 ] أي : كمن لا يعذب ، ويمكن أنْ نرقي المسألة فنقول : كمن يُنعّم ؟ ولك أنت أن تحكم . ومعنى { سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ } [ الزمر : 24 ] أي : العذاب الشديد السيئ ، وتأمل { يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ } [ الزمر : 24 ] معلوم أن الوجه أشرف أعضاء الإنسان ، وبه تتميز سمات الخلق لذلك يقول سبحانه : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } [ الفتح : 29 ] . ولولا سمات الوجوه لتساوت الأبدان وتشابهت بعضها ببعض ، لذلك يهتم الإنسان بوجهه ويدافع عنه ويحميه أولاً ، ومثّلنا لذلك برجل يسير في الطريق ، فمرّت بجواره سيارة مثلاً نثرت عليه وعلى ملابسه الطين ، بالله ما أول شيء يحرص على نظافته وإزالة الأذى عنه ؟ إنه يمسح أول ما يمسح وجهه ، ثم يلتفت إلى ملابسه ، لأن الوجه هو أشرف الأعضاء وأشهرها وأكرمها ، وهو المُحَافَظ عليه قبل كل الجوارح . إذن : ما بالك بعذاب لا يجد الإنسان ما يتقيه به إلا وجهه ؟ نعم يتقي العذاب بوجهه ، لأن يديه مغلولة ، وقدمه مُكبلة ، فلا مهربَ له ولا خلاصَ ، فلا يملك إلا أنْ يتقي العذاب ويدفعه عن نفسه بأعزّ ما يملك ، وبأشرف أعضائه وهو الوجه . { وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } [ الزمر : 24 ] قوله في العذاب ذُوقُوا تهكم بهم ، واختار الذوق وهو جارحة من الجوارح التي تؤدي مهمة في جسم الإنسان مثل العين والأذن ، إنما اختار الذوق خاصة ، لأن الذوقَ هو الحاسة الملازمة للإنسان ، وبه قوام الحياة ، حيث بالتذوق ندخل الطعام والشراب ، ونتمتع به ونجد له لذة تفوق الملاذّ الأخرى . أما العين والأذن مثلاً ، فقد ترَى أو تسمع ما لا يعجبك ، أما في التذوق فإنك تختار ما يعجبك وتجد له لذة ، وهنا يريد الحق سبحانه أن يعمم الذوق في الجسم كله ، فجميع البدن يذوق العذاب . وقلنا : إن اللسان هو جارحة التذوق بمراحله وما حوله يذوق ويُميِّز الطعوم ، فإذا ما تجاوز الطعامُ هذه المنطقة فلا يشعر الإنسان له بأيِّ مذاق ، ولذلك رأينا صناع الدواء يُغلفون الدواء المرّ بمادة مُستساغة مقبولة ، تساعد على مرور الدواء من منطقة التذوق دون أنْ نشعر بمرارته . وإذا نظرتَ إلى الجوارح كلها تجد أنها مُتعلقة بالغير ، فأنا أسمع غيري وأرى غيري ، وألمس غيري أو بعضي ، أما الذوق فخاص بالإنسان نفسه ، فلا يذوق إنسانٌ لآخر لذلك اختار الله سبحانه هذه الجارحة في إظهار شدة العذاب وألمه { ذُوقُواْ } [ الزمر : 24 ] وفي موضع آخر ذُقْ . لا رؤية ولا سماع ولا شم ولا لمس ، إنما بالذوق الذي هو خاص بصاحبه ، وكأن لكل واحد منهم مذاقاً يناسب عذابه . وإذا كان للذوق منطقة خاصة هي اللسان بمراحله وما حوله ، فالذوق هنا أراده الله عاماً وشاملاً ، ليس في منطقة الذوق ، ولكن الجسم كله يذوق العذاب ، بدليل قوله سبحانه : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ … } [ النساء : 56 ] فالإذاقة هنا تعدَّت منطقة الذوق إلى الجسم كله . وإذا ما نظرنا إلى قوله تعالى - بالاعتبار - في القرية التي كانت آمنة مطمئنة فكفرتْ بأنْعُم الله ، قال الله فيها : { فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ … } [ النحل : 112 ] فكأن الإذاقة تلبسهم وتحيط بهم من كل ناحية . والشعراء عادة حينما يبالغون في شيء يُعدّونه من منطقة الحِسِّ له إلى كل المناطق ، وقد اعتاد الشعراء على ذكر القلب ، وأنه محلُّ الحب ، ومن ذلك قول الشاعر : @ وَدَاعٍ دَعَا إذْ نَحْنُ بالخِيف مِنْ مِنَى فَهَيّجَ أحْزَانَ الفُؤادِ ومَا يَدْري دَعَا باسْم لَيْلَى غيرها فَكَأنَّمَا أَهَاجَ بِلَيْلَى طَائِراً كانَ فِي صَدْري @@ وقال الآخر : @ كأنَّ القلبَ لَيْلَة قِيلَ يُغْدَى بِلَيْلَى العَامِرية أوْ يُرَاحُ قطاةٌ عزَّها شَرَكٌ فَبَاتتْ تجاذبه وقَدْ عَلَقَ الجنَاحُ @@ أما الشاعر الذي أراد المبالغة في هذه المسألة فقال : @ خَطَراتُ ذِكْرِكَ تَسْتَثِيرُ مَودَّتِي فَأُحِسُّ مِنْها فِي الفُؤَادِ دَبِيبا لاَ عُضْو لِي إِلاَّ وَفيهِ صَبابةٌ فَكأنَّ أعْضائي خُلِقْنَ قُلُوبَا @@ فالحب عنده تَعدَّى مَنطقته ، حتى صار في كل أعضائه وجوارحه ، وهكذا تتعدى الإذاقةُ منطقة الذَّوْق لتشملَ الجسم كله . لذلك كان قوله تعالى : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ … } [ النساء : 56 ] آيةً من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ، مع أن الإعجاز باللغة والأسلوب والفصاحة خاص بالعرب ، أما غير العربي فله إعجاز آخر يناسبه إعجاز بأن يأتي له القرآن بأقضية ، لم تكن تخطر على البال ساعةَ نزول القرآن ، ولم يعرفها العلم طوال قرون . والآن وبعد أكثر من أربعة عشر قرناً من نزول القرآن يثبت العلم الحديث أن ما أخبر به الحق سبحانه في قرآنه هو الحق ، وأنه سبحانه هو العَالِم بما يكون في كَوْنِ الله باختيار خَلْق الله . قلنا : إنه لما انتهت الحرب العالمية الأولى وانهزمتْ ألمانيا جاء أحد علماء الاقتصاد بها ويسمى شاخت ، وأراد أن يرفع من شأن بلاده ، وأن ينهض بها بعد الهزيمة ، ولما لم يتمكن من الخدمة في الجيش لأنه كان أعرجَ فأعمل عقله في خدمة بلاده ، وشجّع البحث العلمي فيها إلى أن توصلوا إلى اختراع أسطوانة تحطيم الجوهر الفرد ، أو الجزء الذي لا يتجزأ كما يسميه الفلاسفة والمراد به الذرَّة . فلما نجحوا في تفتيت الذرة ، وأصبح لها أجزاء أصغر منها أخذها أعداء الإسلام فرصةً للطعن في صِدْق القرآن الكريم ، فقالوا لقد ضرب الله مثلاً لأصغر شيء بالذرة في قوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 - 8 ] وها هو العلم يكتشف ما هو أصغر من الذرة . لكن سرعان ما فتح الله على أهل العلم فردٌّوا عليهم وقالوا لهم : تمهلوا واقرأوا القرآن كله ، ولا تأخذوا منه ما يؤيد تهجمكم عليه ، ففي آية أخرى قال الله تعالى : { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ يونس : 61 ] . إذن : في القرآن احتياطٌ لهذه المسألة ، فلم يقل صغير بل أصغر من الصغير ، فمهما حدث من تفتيت ، ففي القرآن احتياط له . ومن إعجاز القرآن لغير العرب هذه الآيات العلمية التي يكتشفونها ، فإذا بالقرآن يسبقهم إليها ، ومن ذلك مثلاً مسألة مراكز الإحساس في الجسم ، أولاً قالوا : المخ هو مركز الإحساس ، وقال آخرون : بل النخاع الشوكي ، بدليل أن الإنسان يُحِس بأشياء مع أنها لم تلمس جسمه ، كما لو وضعت أصبعك مثلاً مقابل عيْن إنسان ، فإنه يغلق عينه تلقائياً . ثم لما تأملوا الإبرة أو الحقنة تُعطَى للمريض مثلاً ، فإنه لا يشعر بالألم إلا بمقدار نفاذ الإبرة من الجلد ، فقالوا : إذن : الجلد هو مركز الإحساس ، وهذا هو ما قرره القرآن الكريم في قوله تعالى : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ … } [ النساء : 56 ] . وقوله تعالى : { مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } [ الزمر : 24 ] مادة كسب في القرآن الكريم جاءت كما قلنا على صيغتين : كسب واكتسب ، وقد بيَّن الحق سبحانه متعلق كل منهما في قوله تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ … } [ البقرة : 286 ] فكسب للخير واكتسب للشر لأن كسب على وزن فعل ، والخير يأتي من صاحبه طبيعياً لا تكلُّف فيه ولا افتعال ، أما اكتسب فعلى وزن افتعل فيها افتعال ، والافتعال لا يكون إلا في الشر ، فالخير لا يحتاج منك إلى حيل وافتعال ، بل يأتي طبيعياً على خلاف الشر . وقد أوضحنا هذه المسألة بالرجل يجلس مع زوجته وبناته ، وينظر إلى جمالهن نظراً طبيعياً لا يحتاط فيه لشيء ولا يخشى فيه شيئاً ، أما إن أراد أن ينظر إلى امرأة جميلة في الشارع مثلاً ، فإنه يتلصص لذلك ويحتال ، هذا هو الافتعال . لكن القرآن الكريم خالف هذه القاعدة في مواضع ، منها هذه الآية { وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } [ الزمر : 24 ] ولم يقل تكتسبون ، فاستخدم كسب في الشر ، وفي موضع آخر أيضاً قال : { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 81 ] . فلماذا عَدَل القرآن عن اكتسب إلى كسب ؟ قالوا : لأن الإنسان والعياذ بالله قد يتعوّد المعصية ويألف المخالفة حتى تصير له عادة يفعلها فِعْلاً طبيعياً ويأنس بها وكأنها طاعة ، وهذا الذي نسميه فاقد ولأنه ألفها وتعوَّد عليها بل ويفرح بها عبَّر القرآنُ عنها بكسب التي هي للخير ، ونقل الاكتساب إلى محل الكسب . لذلك فرَّق القرآن بين مَنْ يفتعل المعصية ويقصدها ويسعى إليها ، ومَنْ تقع عليه المعصية دون إعداد لها ، واقرأ قول الله تعالى : { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ النساء : 17 - 18 ] . معنى بِجَهَالَةٍ أي : من غير قصد لها ولا ترتيب ولا بحث عنها ، وإنْ حدث منهم السوء لا يفرحون به ، بل يألمون ويندمون ، أما النوع الآخر فيرتكب السيئات عن قصد ولا يبالي ، وربما فرح بها وجاهر بها .