Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 39, Ayat: 25-26)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله سبحانه : { كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ … } [ الزمر : 25 ] أي : من الأمم السابقة { فَأَتَاهُمُ ٱلْعَـذَابُ … } [ الزمر : 25 ] أي : عذاب الدنيا بهزيمتهم ونُصْرة الدين الذي كانوا يحاربونه ويصادمونه ، وهذه أيضاً هي التي حدثتْ للكافرين ، حيث نصر الله الإسلام ، وأظهر مبادئه وقضاياه على مبادئ الكفر ، وهذا في حَدِّ ذاته لَوْنٌ من العذاب في الدنيا ، فإذا ما عادوا إلى الله في الآخرة كان لهم عذاب آخر أشدّ وأنكى . إذن : فهم يشبهون من سبقهم من المكذِّبين لذلك قال في موضع آخر : { كَدَأْبِ … } [ آل عمران : 11 ] . لذلك قوله تعالى : كَذَّبَ هنا وقوله كَدَأبِ هناك يتبين لنا قضية نفسية في القرآن الكريم ، هي أن حفاظ القرآن يجب ألاّ يكونوا من العلماء ، خاصةً علماء اللغة والفصاحة ، لأن العالم إذا وقف في القرآن أمام لفظ أمكنه أنْ يتصرَّف فيه ويكمل قراءته ، فيقول مثلاً : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ … } [ الحجرات : 6 ] يقول : فتثبتوا أو فتحققوا ، ويمكن أنْ يستقيم المعنى ، لكن الحق سبحانه يريد لفظاً بعينه لا يجوز أنْ نتعداه إلى غيره ، أما الذي تخصص في حفظ القرآن ، وليست لديْه ملكَة التصرف هذه ، فإذا نسي أو وقف في لفظ وقف بالأربعة يعني : لا يمكن له التصرف فيه ، وهذا هو المطلوب في حَفَظة كلام الله ، وهذه من عظمة القرآن . لذلك قلنا : إن كمال القرآن لا يتعدَّى ، كيف ؟ فمثلاً لو أردنا لإنسان أنْ يرقِّق أسلوبه ويُقوِّيه في الأداء الإنشائي ننصحه بأنْ يقرأ كتب الأدب عند المنفلوطي والرافعي وغيرهما ، فلما يُكثر من هذه القراءات نلاحظ تحسُّناً في أسلوبه وأدائه . ثم إن حافظ القرآن المتمكن منه حتى لو حفظه بالعشرة وقِيل له اكتب خطاباً تجده لا يستطيع أن يكتبه فصيحاً أبداً لماذا ؟ لأن كمال القرآن لا يتعدَّى إلى غيره ، إنما بلاغة البشر تتعدى إلى البشر . وقوله : { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } [ الزمر : 25 ] أي : من حيث لا يُقدِّرون ولا يحتسبون ، حيث يداهمهم من العذاب ما لم يكُنْ في حسبانهم ، ولم يخطر لهم ببال ، كما في قوله سبحانه : { وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [ النور : 39 ] أي : فوجئ به ، فوجئ بحسبان آخر غير ما كان ينتظر ، لأنه كذَّب في الدنيا بالبعث وبالحساب ، والآن يُفاجئه الحساب الذي كذَّب به . ثم يقول سبحانه : { فَأَذَاقَهُمُ ٱللَّهُ ٱلْخِزْيَ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا … } [ الزمر : 26 ] هنا نقل الإذاقة الحسية إلى الإذاقات المعنوية ، والخزي والذلة نوع من العذاب ، ولها إيلام يفوق الإيلام الحِسِّيَّ ، فمن الناس مَنْ لا يؤلمه الضرب ، إنما تؤلمه كلمة جارحة تخدش عِزَّته وكرامته . لكن لماذا أذاقهم اللهُ الخزيَ في الدنيا قبل عذاب الآخر ؟ أذاقهم الخزي لأنهم تكبَّروا على الحق وتجبَّروا ، وجاءوا بقَضِّهم وقضيضهم في بدر لمحاربة الإسلام ، وظنوا أنهم العناتر والجولة جولتهم ، المراد إذن صناديد قريش ورؤوس الكفر أمثال عتبة وشيبة والوليد وغيرهم ، جاءوا بالعدد والعُدة ، وما خرج المسلمون لقتال إنما خرجوا للعير ، ومع ذلك أعزَّ اللهُ جنده وأخزى عدوه ، فقتل منهم مَنْ قتل ، وأسر مَنْ أسر وذلّوا ، وكان الخزي لهؤلاء أنكَى من القتل . إذن : كان لهم الخزي في الدنيا ، أما في الآخرة فلهم عذاب : { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 26 ] نعم ، عذاب الآخرة أكبر من خزي الدنيا وأشدّ { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 26 ] لأن الذين علموا هذه الحقيقة انتهوا وآمنوا ، أما هؤلاء فعاندوا وكابروا وكذَّبوا .