Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 39, Ayat: 34-35)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ } [ الزمر : 34 ] أي : متوفر لهم كلّ ما يشاءون ، لكن عند مَنْ ؟ { عِندَ رَبِّهِمْ } [ الزمر : 34 ] حين تكون لا عندية إلا لله وحده ، هذه العندية هي معنى قوله تعالى : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } [ غافر : 16 ] . فالعندية تكون للناس في الدنيا ، فهذا موظف عند هذا ، وهذا خادم عند هذا ، أما في الآخرة فالعندية لله وحده ، وفي هذه العندية ينال المؤمن ما اشتهاه في الدنيا ولم يحصل عليه في الآخرة يقول الله { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } [ الزمر : 34 ] ولم يقُلْ لهم ما يشاءون ، بل ما يشاءون عندي أنا . أي : بلا أسباب ، لأن الأسباب كانت في الدنيا ، وما تريده بالأسباب قد لا يتحقق لك ، وإنْ كان في يدك لأن الله يزاول سلطانه بواسطة خلفائه في الأرض ، فيجعل هذا سبباً في رزق هذا ، وهذا يعين هذا ، والأسباب قد تتخلف أما في الآخرة فلا أسبابَ ، بل هو عطاء الله المباشر بلا سبب . وفي سيرة أكابر الرسل أحداثٌ توضح لنا هذه العندية لله تعالى ، فسيدنا إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - أول ما دعا دعا عمه آزر ، وجادله في مسألة الأصنام ، فلما رآه مُصِرّاً على عناده قال له : { سَلاَمٌ عَلَيْكَ … } [ مريم : 47 ] . كلمة السلام هنا ليست سلام الأمن والطمأنينة ، ولا سلامَ التحية ، إنما سلام الموادعة لأنهما مختلفان في الرأي ، ولن يثمر الجدل مع العناد والمكابرة ، فطول الجدال لن يُزيد المسألة إلا تعقيداً وعداوة ، ومن الأفضل في مثل هذا الموقف أن ينسحب منه صاحب الحقِّ حتى لا تشتعل نارُ الخلافات أكثر من ذلك ، كما تقول لصاحبك في مثل هذا الموقف : يا عم سلام عليكم لتنهي الموقف ، فالسلام عليكم هنا تعني أنني لو لم أترك هذا المكان لن يحدث سلام . وقد يكون سلامٌ من البشر لا يقدرون على أدائه . لذلك ، فإن السلام الحق من الله ، كما في قوله تعالى : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] . الشاهد هنا أن سيدنا إبراهيم - عليه السلام - شاء أن يستغفر لعمه ، فلم يُجَبْ إلى ذلك ، شاء في الدنيا لكن الله لم يشأ ، كذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم شاء أنْ يستغفر لعمه أبي طالب بعد أنْ دعاه فلم يستجب ، وأصرَّ على دين آبائه ، فلما استغفر له رسولُ الله أنزل الله عليه : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ … } [ التوبة : 113 ] . فقد شاء محمد صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لعمه ، لكن لم يُعْط ذلك ، لأن هذه المشيئة منه في الدنيا ليستْ عند الله ، أما مشيئته عند الله في الآخرة فمستجابة متحققة ، هذا معنى { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ . . } [ الزمر : 34 ] . فإنْ كانت للمؤمن مشيئات لا تتحقق في الدنيا فهي مُدَّخرة له في الآخرة عند ربه ، هذه المشيئات التي لا تتحقق يسترها شيء واحد أن أكرم المشيئة أنْ تشاء من الله أنْ ينصر دينه ، وقد تحققت هذه المشيئة . إذن : فالمشيئة التي لا تتحقق هي التي تعود على نفسك ، أما المشيئة التي تطابق الإيمان بمنهج الله فهي لا بُدَّ متحققة كما تحققت مثلاً في بدر . فالحق - سبحانه وتعالى - يريد منا حين نكون مؤمنين به ومُصدِّقين لرسوله ألاَّ تكون لنا مشيئة في غير ديننا لأن المشيئة في غير الدين يمكن أن تكون في أيدي الناس فلا يحققوها لك ، وربما مات المؤمن قبل أنْ يرى مشيئته بنصر الله فيدخر له ذلك في الآخرة . إذن : المهم عنده أن تكونَ المشيئة خاصة بنصر دين الله على مَنْ يكذبه ويخالفه ، وهذه المشيئة متحققة بدليل : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [ الصافات : 173 ] . وقوله : { ذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ الزمر : 34 ] صحيح هناك عمل ، وهناك فضل ، وتشريع الجزاء على العمل من الفضل لأن ربنا حينما يثيبني على شيء يعود عليَّ بالنفع يُعد هذا الجزاء زيادة ، والأصل أن يقول لي : لقد أخذتَ جزاءك منفعةً بالعمل الذي عملته لأن خالقك أعطاك كل الأسباب ، أعطاك الجوارح التي تعمل بها ، وأعطاك الأرض والمال والهواء والماء والطعام ، فإنْ أثابك على العمل كان من فضله . والمحسن درجةٌ أعلى من المؤمن ، فالمؤمن يأخذ ما فرضه الله عليه ويُنفِّذه دون زيادة ، أما المحسن فهو الذي يؤدي ما فرض الله عليه ويزيد عليه من جنس ما فرض الله ، فمثلاً يصلي الصلوات الخمس ثم يزيد عليها ما شاء من النوافل من صلاة الليل ، كما قال سبحانه في المحسنين : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [ الذاريات : 17 - 19 ] . ولم يقل هنا حق معلوم لأن الحق المعلوم هو الزكاة ، أما في هذا المقام فالعبد يُزكِّي ماله ، ثم يزيد على ذلك ما شاء من التطوع والصدقات ، وهذه الزيادات ما طلبها منك ربك ، إنما تؤديها محبةً وتقرباً إليه سبحانه . إذن : كلمة الإحسان عند الله فيها نفس معنى الإحسان للناس . تقول : أحسنت إلى فلان حين تعطيه أكثر من حقه . وحين يجازي الله المحسنَ إنما يعطيه جزاءَ إحسانه ، فإذا كان العبد يحسن فالله أوْلَى وأكرم . والحق سبحانه أعطانا المثَل الحسِّي للإحسان في الأرض ، وما تُخرجه من ثمراتها فأنت تضع فيها حبة القمح مثلاً ، فتعطيك في المقابل سبعمائة حبة ، فإذا كان هذا هو عطاء الأرض المخلوقة لله تعالى ، فما بالك بعطاء الخالق سبحانه ؟ فالمعنى : { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } [ الزمر : 34 ] لماذا ؟ لأنهم كانوا محسنين ، وهذا جزاء الإحسان . وقوله : { لِيُكَـفِّرَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ } [ الزمر : 35 ] هذا أيضاً من العطاء الخاص بدرجة الإحسان ، فكلمة أسوأ تدلّ على المبالغة وأقل منها السيئة ، فعندنا سيئة وأسوأ منها ، ولا شكَّ أن السيئة تنصرف إلى الصغائر ، والأسوأ تنصرف إلى الكبائر ، فكأن الذي دخل في مقام الإحسان ضمن أن مقام الإحسان يكون له مثل مقاصَّة تُسقط عنه ذنوبه ، ليست الصغائر فحسب إنما الكبائر أيضاً لأن الذي يُكفّر الأسوأ يُكفِّر السيئة من باب أَوْلَى ، هذا لأنك أدخلتَ نفسك في مقام لم يُطلب منك لمجرد المحبة لمن كلفك . بل هناك عطاء أعظم من ذلك ، هو أن المسألة لا تنتهي عند تكفير الذنوب والسيئات ، إنما تُبدَّل إلى حسنات ، كما قال سبحانه : { فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ … } [ الفرقان : 70 ] . فتأمّل درجات العطاء من الله ، والربح في التجارة معه سبحانه . وبنفس الإكرام والتفضل يجازي اللهُ المحسنين على حسناتهم { وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِي كَـانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الزمر : 35 ] فكما غفر لهم الأسوأ يجازيهم أحسن الذي كانوا يعملون ، أيْ : بأحسن من عملهم . هذا العطاء من الله ، وهذا التكرم والتفضل منه على عباده شجَّع الشارد من دعوة الإيمان وحَثَّه على العودة إلى حظيرة الإيمان ، فليس هناك ما يحول بينه وبين ربه ، وليس في الطريق حجر عَثْرة مهما كَثُرَت الذنوب ما دام بابُ التوبة مفتوحاً . والحق سبحانه حينما شَرَع التوبة للعاصين المذنبين شرعها لينقذهم من شراسة المعصية ، فلو قلنا للعاصي : ليس لك توبة ماذا يفعل يفقد كما نقول : فلان ده فاقد . يعني : يئس من الإصلاح فتمادى في الفساد وبالغ في الضلال ، والحق سبحانه لا يريد لعباده ذلك ، ففتح لهم بابَ التوبة ليعطفهم إلى دين الله ، فلا يزداد الانحرافُ في المجتمع ، ولا تستشري فيه المعصيةُ . بعد أن أخبر رسول الله القومَ بهذا المنهج الإلهي في الجزاء قال المعاندون لرسول الله : نخاف عليك يا محمد أنْ تمسَّك آلهتنا بسوء وقد أغضبتها ، سبحان الله يقولون هذا وهم يعلمون أنها حجارة لا تضر ولا تنفع ، ولما مسَّهم الضر ما وجدوا غير الله يلجئون إليه ولذلك نزل قوله تعالى : { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ … } .