Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 39, Ayat: 32-33)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الاستفهام في { فَمَنْ أَظْلَمُ } [ الزمر : 32 ] يحمل معنى التعجب والإنكار يعني : لا أحدَ أظلمُ من هذا الذي يكذب على الله ، فلو كذب على غير الله لكان منكراً ، فما بالك وقد كذب على الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، ويعلم حقائق الأشياء سِرَّها وعلانيتها . إذن : فالكذب على الله خيبة ، وإنْ كنت ولا بُدَّ ستكذب فاكذب على إنسان مثلك هو أيضاً عُرْضة لأن يكذب . لذلك جاء لفظ { أَظْلَمُ } على وزن أفعل التي تدل على المبالغة ، لأن أفظعَ الظلم وأعظمه أنْ تكذب على الله ، لكن مَنْ ظلم ؟ أظلم مَنْ يكذب عليه أم ظلم نفسه ؟ بل ظلم نفسه . ولم يقف الأمر عند هذا بل { وَكَذَّبَ بِٱلصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ } [ الزمر : 32 ] لأن التكذيب بالصدق ينقل القضايا إلى نقيضها ، والشيء الصدق هو الذي لا يُقال لقائله كذبت ، لأنه إخبارٌ بأحداث يُصدِّقها الواقع وسبق أنْ قلنا : إن النسبة الكلامية إذا وافقتْ نسبة الواقع كان الكلام صادقاً ، وإذا خالفت الواقع كان كاذباً . ثم يستفهم الحق - سبحانه وتعالى - وهو أعلم : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } [ الزمر : 32 ] يعني : ما ظنّ هؤلاء الذي يكذبون على الله ويُكذبون بالصدق ، ألم يعلموا هذه الحقيقة وهي أن جهنم مثوى للكافرين المكذِّبين ، لو كانت هذه الحقيقة في بالهم ما اجترأوا على الله ، إنما هم كاذبون يقولون غير الواقع ولا يؤمنون به . وبعد ذلك ينتقل إلى خصوصية الصادق { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ } [ الزمر : 33 ] وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي تلقّى عن ربه وبلّغ أمته ، وقد أكد الله تعالى صِدْق رسوله في مواضع كثيرة ، منها : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ * فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 44 - 47 ] . إذن : مسألة الكذب على الله مسألة لا يُحابي فيها أحد حتى الرسل ، لذلك جاء بلاغه صلى الله عليه وسلم عن ربه دقيقاً ، فتراه لا يبلغ مضمون المقولات ، إنما يبلغ المقولات ذاتها ، واقرأ قوله تعالى : { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] فكان بإمكانه صلى الله عليه وسلم أنْ يقول لقومه : الله أحد . وبذلك يكون قد بلَّغ المراد من الآية إنما قال كما جاءه من ربه { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] فذكر الأمر بأنْ يقول قل . والعجيب أنْ يطلُعَ علينا مَنْ يقول بحذف مثل هذه الكلمة بحجة أنها لا تضيف جديداً للمعنى ، ونقول : هذا ليس كلامَ بشر ، بل هو كلام الله وقرآنه ، وقد حفظه الله بنفسه وبلّغه رسوله كما تلقّاه عن ربه . أرأيتَ لو أرسلتَ ابنك ليُبلِّغ عنك قضية مثلاً وقلتَ له : اذهب إلى فلان وقُلْ له كذا وكذا ، وبإمكان الولد أنْ يبلغ مضمون القضية ، لكنه حين يقول : أبي قال لي قُل لفلان كذا وكذا ، فهذا يعني أنه يؤكد الكلام ويهتمّ بالرسالة كما تلقاها ، إذن : لو حُذِفَتْ كلمة قُلْ فقد حُذِفَتْ كلمة من القرآن ، لا كلمة زائدة عليه . وقوله : { وَصَدَّقَ بِهِ } [ الزمر : 33 ] أي : صدَّق بالصدق الذي جاء به ، صدَّق هو أولاً ولم ينتظر منا أنْ نُصدِّق نحن أو نشهد بذلك ، لقد أخذ الرسول عن ربه أنه إله واحد لا شريكَ له فشهد بذلك أولاً وصدَّق ، كذلك الحق سبحانه لم ينتظر شهادةَ العباد بوحدانيته إنما شهد بها لنفسه أولاً ، فقال سبحانه : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ } [ آل عمران : 18 ] وبعد أنْ شهد اللهُ لنفسه بالوحدانية وجب على الرسول أيضاً أنْ يشهد بأن محمداً رسولُ الله ، إذن : جاء بالصدق وصدَّق هو به وقال هو عن نفسه : أشهد أن محمداً رسول الله . كذلك شهد الملائكة بهذه الوحدانية ، وشهد بها أولو العلم شهادةَ الحجة والدليل والبرهان . وقالوا : { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ } [ الزمر : 33 ] هو رسول الله { وَصَدَّقَ بِهِ } [ الزمر : 33 ] أي : الذين صدَّقوا رسول الله في أول بلاغ له عن ربه ، سواء أكان أبا بكر رضي الله عنه أم السيدة خديجة رضي الله عنها ، وقد اختلفوا في هذه المسألة : أهو أبو بكر أم خديجة ؟ وليس في المسألة خلاف . فإذا قيل : أول مَنْ آمن من الرجال نقول أبو بكر . ومن النساء : خديجة . والواقع أن السيدة خديجة آمنتْ برسول الله وصدَّقته في أول الأمر ، وربما قبل أنْ يبلغ أبا بكر الخبر ، وتعلمون موقفها من رسول الله حين جاءه الوحي ، وأنها ذهبتْ به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل ، فقال : إنه نبيُّ هذه الأمة ، ولكي يؤكد لها هذه القضية قال : وإنْ يدركني يومك لأنصرنَّك نصراً مؤزّراً ، ليتني أكون حيّاً يوم يُخرجك قومك ، قال : أو مخرجي هم ؟ قال : ما جاء أحد بمثل ما جئتَ به إلا أُوذِي ولتُخرَجُنَّ . أما الصِّديق أبو بكر فلما أخبروه أن صاحبك يزعم أنه رسول قال : إنْ كان قال فقد صدق ، إذن : كيف صدَّق أبو بكر وهو لم يَرَ من رسول الله معجزةً تدل على رسالته ؟ قالوا : ليست المعجزة عياقة لا يؤمن الناس إلا بها ، إنما المعجزة جُعِلَتْ لمن يكابر في التصديق لذلك جاءت معجزةُ القرآن تحدياً للكافرين والمعاندين المكذِّبين ، أما مَنْ آمن برسول الله أولاً فلا يحتاج إلى معجزة ، وأيُّ معجزة جعلتْ أبا بكر يؤمن ويُصدِّق برسول الله بهذه السرعة ؟ قالوا : لأنه لم يُجرِّب على رسول الله كذباً أبداً قبل ذلك ، فإذا كان صادقاً في أموره مع الناس أيكذب على الله ؟ إذن : أخذ أبو بكر المعجزة من تاريخه مع رسول الله ، وكذلك السيدة خديجة بدليل أنها هي التي شجَّعته وآزرته وقالت : " والله لا يُخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، وتَقْري الضيف ، وتحمل الكَلَّ ، وتعين على نوائب الدهر " فمعجزة محمد لمَنْ آمن به أولاً تاريخه وسيرته بينهم . وأنتم تعلمون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خزيمة الذي يقول فيه : " مَنْ شهد له خزيمة فحَسْبه " ونِصاب الشهادة معروف ، فكيف جعل رسول الله خزيمة نِصاباً وحده في الشهادة ؟ وبم استحق هذه المنزلة ؟ قالوا : لأنه فاز بجدارة في قضية التصديق برسول الله " حينما اقترض رسول الله مبلغاً من المال من يهودي ، ثم أدَّاه إليه في موعده ، لكن جاء اليهودي يدَّعي أنه لم يأخذ دَيْنه من رسول الله ، وذهب إلى رسول الله أمام الناس يقول : يا محمد أو يا أبا القاسم أعْطِني دَيْني ، فقال رسول الله : لقد أعطيتُك ، فقال : ومَنْ يشهد على ذلك ؟ فقام خزيمة وقال : يا رسول الله أشهد أنك أعطيته دَيْنه . ولأن اليهودي كان كاذباً في ادعائه صدَّق بشهادة خزيمة وقال في نفسه : لعله كان حاضراً ولم أَرَه ، لأن اليهودي أخذ دَيْنه من رسول الله ولم يكُنْ أحدٌ موجوداً معهما ، عندها خنس اليهودي وانصرف ، فاستدعى رسول الله خزيمة ، وقال له : يا خزيمة لم يكُنْ معي أحد حين أعطيتُه حقه ، فكيف شهدتَ أنك رأيتني أعطيه ؟ فضحك خزيمة وقال : يا رسول الله أأصدقك في خبر السماء وأكذبك في عدة دراهم ؟ فأعجب رسول الله باستنتاج خزيمة ، ورآه اجتهاداً جميلاً ، فقال فيه : " مَنْ شَهِدَ له خُزيمةُ فحسْبُه " . والمسألة ليست على دراهم اليهودي ، إنما لها واقعٌ آخر ، حينما أرادوا أن يجمعوا القرآن تحرَّوْا فيه أقصى درجات الدقة ، فكان الجامع لا يكتب كلمة واحدة في المصحف الجامع إلا إذا رآها مكتوبة ، وشهد عليها شاهدان ليتأكد من صدقها في الصدور وفي السطور ، حتى وقف أمام آية كُتِبت وشهد عليها شاهد واحد فتوقف ، فلما رأى أن هذا الشاهد هو خزيمة تذكَّر قول رسول الله فيه : " مَنْ شهِد له خزيمة فحَسْبه " فكتبها . ومن مواقف التصديق ما كان من الصِّدِّيق أبي بكر لما أخبروه خبر الإسراء والمعراج . وقالوا له : إن صاحبك يدَّعِي أنه أتى بيت المقدس وعُرِج به إلى السماء في ليلة واحدة ، لم يبحث المسألة ولم يناقشها إنما صَدَّق بدايةً وقال : إنْ كان قد قال فقد صدق . فميزان الصدق عنده مجرد أنْ يقول رسول الله . وقوله : { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } [ الزمر : 33 ] أي : الذين أخذوها من قصيرها كما يقولون ، وجعلوا بينهم وبين صفات الجلال من الله وقاية .