Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 38-38)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أراد الحق سبحانه أنْ يُسفِّه أحلامهم في أنْ يعبدوا أصناماً ، وأراد سبحانه أنْ يقيم عليهم الدليل والحجة على بطلان هذه العبادة ، وأنْ يكون هذا الدليلُ إقراراً منهم لا خبراً منه سبحانه ، وقلنا : إن إثبات الحكم إما أن يكون خبراً منك ، أو إقراراً من المقابل . والإقرار - كما قلنا - سيد الأدلة ، وأنت لا تترك للمخاطب أنْ يحكم هو إلا إذا كنت واثقاً أنه سيقول ما تريده أنت ، كما تقول لمن ينكر جميلك : ألم أُحْسن إليك يوم كذا وكذا ؟ لا تقولها إلا وأنت واثقٌ أنه لا يستطيع أنْ ينكر . لذلك فالحق سبحانه يسألهم هنا عن عمدة الكون في الخَلْق أو الظرف الأعلى الذي يحوي المخلوقات كلها وهو السماوات والأرض ، فالإنسان خُلِق له الكون قبل أنْ يُخلق ، فطرأ على أرض فيها زرع ونبات وماء وهواء وتربة صالحة ، وطرأ على سماء فيها الكواكب والنجوم والشمس والقمر . فقال سبحانه : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ … } [ الزمر : 38 ] لا بدّ أنْ يقولوا الله ، والله وحده لأنهم أداروا فكرهم فلم يجدوا أحداً ادعى هذا الخَلْق ، ولم يأتِ ببال أحد من الكافرين أو المعاندين أو المنكرين لوجود الله لم يأت على باله أنْ يدّعي هذا الادعاء . ولو تتبعنا خَلْق الإنسان من لَدُنْ آدم عليه السلام ومَنْ جاء من ذريته نجده طرأ على هذا الكون بسمائه وأرضه ، فلو سألناه : أأنت خلقت السماء والأرض ؟ لا يستطيع أنْ يقول : أنا خلقتهما . فاسألهم أنت يا محمد هذا السؤال : { مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } [ الزمر : 38 ] ولا بدّ أنْ يقولوا الله لأنه ما مرّت فترة على موجود ليس في وجوده أرض وسماء ، حتى يُقال إنه أوجدها لما جاء ، بل الجميع طارئ على هذا الكون . ومثلهما تماماً : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [ الزخرف : 87 ] لأن أول مخلوق خُلِق وأوجد لا يستطيع أحد أنْ يقول له : أنا خلقتك ، ولا يقدر هو أنْ يقول خلقتُ نفسي . وقولهم في الجواب هنا الله يلفتنا إلى مسألة أخرى ، فالله لفظ دائر على ألسنتهم ويفهمون مدلوله وإلا ما نطقوا به ، ذلك لأن المعاني توجَد أولاً ، ثم تُوضع لها الألفاظ التي تدلّ عليها ، ومثَّلْنا لذلك بالتليفزيون مثلاً ، فقبل أنْ يوجد ما كنّا نعرف هذا الاسم ، لكن لما وُجِد وضعنا له الاسم ، إذن : كلمة الله كيف دخلتْ لغة الناس ؟ إذن : فلفظ الجلالة الله له مدلوله ، وهو الحق سبحانه موجود قبل أنْ يُوجد هذا اللفظ . لذلك نقول لمن ينكر وجودَ الله تعالى : كلامك متناقض ، فقوْلك الله غير موجود لا يستقيم ، لأن الله مبتدأ محكومٌ عليه وغير موجود خبر محكوم به ، فكيف تقول إنه غير موجود ، والمعنى يُوجد قبل لفظه ؟ وكلمة الله ما وُجدَتْ في لغة إلا لأنه سبحانه موجود ، موجود قبل الاسم ونحن ما عرفنا الاسم إلا لما أخبرنا به صاحبه لأن عمل العقل في الإيمان أنْ يدلَّك على أن وراء هذا الكون خالقاً أوجده ، لكن ما هذه القوة ؟ وماذا تريد من الخَلْق ؟ هذه ليستْ مهمة العقل ، فالعقل لا يصل إليها ، إنما نعرفها بالبلاغ عن هذا الخالق . تذكرون أننا مثَّلنا هذه المسألة قلنا : نحن مثلاً جالسون في منزل ثم دقَّ جرس الباب ، ساعة سمعنا الجرس اتفقنا جميعاً على أن أحداً بالباب ، لأن كل حدث لا بُدَّ أنّ له محدثاً ، لكن مَنْ هو ؟ ماذا يريد ؟ لا نعرف إلا إذا أخبرنا هو بماهيته وقال : أنا فلان ، وأريد كذا وكذا . إذن : فالعقل بالنسبة للوجود الأعلى لا يدرك مُشخَّصات الوجود الأعلى ، إنما فقط يؤمن بوجوده ويستدل عليه ، وهو سبحانه يخبرنا باسمه وصفاته ومنهجه ومطلوباته ، فالبلاغ لا بُدَّ أنْ يكون من صاحب الشأن . ومن خيبة الفلاسفة في البحث أنهم أرادوا أنْ يُدخِلوا العقل لا في المعقول فقط ، إنما في تصور المعقول ، والتصور ليس مهمتهم لأنك لا تستطيع أنْ تتصوَّر شكلَ هذا المعقول ، أنت تعقل الموجود فقط ثم تترك للوجود أنْ يتكلم عن نفسه . لذلك نقفشهم حينما يقولون في العلوم : علوم مادية وعلوم وراء المادة ، وهي التي يسمونها الميتافيزيقا ، ومَنْ أعلمك أن وراء المادة شيئاً يُبحث عنه ؟ والقضية أنه لا يوجد شيء إلا بشيء إلى أن نعرف هذا الشيء ، فإن لم يستدرك عليه شيء آخر يثبت له . فالحق سبحانه قال وأخبر أنه هو الذي خلق هذا الخَلْق ، فهذا الوجود لا يوجد إلا إذا أوجده واجد وأنا الذي أوجدته ، ولم يَقُم لهذه الدَّعْوى معارض إذن : تثبت الدعوى لصاحبها إلى أنْ يُوجدَ معارض . لذلك سبق أنْ قلنا : إن كلمة الكفر هي نفسها دليلُ الإيمان ، لأن الكفر معناه الستر ، ولا يستر إلا موجود ، فكأن الكفر طارئ على الإيمان ، كأن الأصل في الفطرة السليمة الإيمان ، ثم طرأ عليه الكفر ليستره . وبعد أنْ قالوا الله وأقروا الحجة الأولى في أنه سبحانه خالق السماوات والأرض قال لهم { قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ … } [ الزمر : 38 ] يعني : أخبروني فأمَّنهم أن يقولوا هم وأنْ يخبروا عن الذين يدعونهم من دون الله أي الأصنام { إِنْ أَرَادَنِيَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ … } [ الزمر : 38 ] أي : الأصنام { كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ … } [ الزمر : 38 ] الجواب لا يكون إلا بالنفي ، لأن الأصنام أولاً لا تسمع ضراعة مَنْ يتضرع لها ، ولا يدركون مطلوبه ، فكيف يجيبونه في كشف الضر عنه ؟ وفي المقابل : { أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ … } [ الزمر : 38 ] أي : الأصنام { مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } [ الزمر : 38 ] الجواب أيضاً بالنفي ، إذن : ثبت النفع لله بإقرارهم ، وثبت البطلان لآلهتهم ، لكن إنْ تلجلجوا بعد ذلك فلم يجيبوك لأن الجواب سيلزمهم الحجة فَقُلْ : { حَسْبِيَ ٱللَّهُ . . } [ الزمر : 38 ] أي : في إيجاد النافع في خَلْق السماوات والأرض ، وحَسْبي الله في دفع الضر عني ، فهو يكفيني . وهذا معنى قوله تعالى في الآية السابقة : { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] كافيه يعني : يعطيه النعمة نعمة الوجود أولاً ، ثم نعمة امتداد هذا الوجود واستبقاء الحياة ، ثم نعمة استبقاء النوع ، وبعد ذلك يرفع عنه الضر إنْ أصابه ونزل به ، والإنسان إذا مسَّه الضر في نفسه لا يتجه إلى إله باطل أبداً ، لأنه لا يخدع نفسه ولا يكذب عليها ، لذلك قال سبحانه : { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67 ] . وقوله : { عَلَيْهِ يَتَوَكَّـلُ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ } [ الزمر : 38 ] هنا أسلوب قَصْر ، يقصر التوكل على الله وحده ، وهذا هو التوكل الحقيقي لأن المتوكل على شيء يجعل لقوته رصيداً إذا ذهبتْ هذه القوة ، لذلك فالعاقل هو الذي يتوكل على مَنْ يغيثه ويُعينه وإذا احتاج إليه وجده ، وقلنا : خاب مَنْ توكل على مثله لأنك تتوكل عليه ، وتأمل عنده قضاء حاجاتك ، وبعد أيام تقرأ نَعْيه في الجرائد ، لذلك يُعلمنا ربنا سبحانه كيف نتوكل ، فيقول : { وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي لاَ يَمُوتُ } [ الفرقان : 58 ] . وفرْق بين التوكل والتواكل لأنه يد الله مُدَّتْ قديماً بالأسباب للخَلْق ، أسباب استبقاء الحياة بالطعام والشراب ، وأسباب استبقاء النوع بالتزاوج . الحق سبحانه حينما ضمن لنا هذه الأسباب جعل لنا دوراً فيها ، فالأرض مثلاً أمامك ، والشمس تشرق عليها ، والهواء يهبُّ عليها ، والمطر يسقيها ، وعليك أنت أنْ تستغلَّ هذه الأسباب بأنْ تحرثَ الأرضَ وتبذر البذور وترعاها لتعطيك الأرض من خيراتها ، ولا تنتظر أنْ تجلس في بيتك والأسباب تأتيك بالطعام تضعه على مائدتك لأن ربك خلقك وخلق لك الجوارح ، وجعلها تنفعل لإرادتك فيدُكَ يمكن أن تضرب بها ، ويمكن أن تمسح بها على رأس يتيم ، لسانك يمكن أنْ تنطق به كلمة التوحيد ، ويمكن أن تنْطق به ما ينافيها . لكن تذكَّر أن جوارحك خاضعة لمرادك في الدنيا فقط ، أما في الآخرة فلا ولاية لك عليها ، لأنها ستكون في ولاية خالقها ، يوم يقول سبحانه : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } [ غافر : 16 ] وعندها تتحرر جوارحك من ولايتك وتشهد عليك : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] . هذه الأسباب وهذه الجوارح التي خلقها الله لك ما خلقها لتعطلها أنت ، فإنْ كان العمل في إمكانك وطلبته من غيرك ، فهذا هو التواكل ، أنْ تهمل أسباب الله وتغفل عن هذه المملكة التي جعلها الله تدين لك وتطاوعك ، وتأتمر بأمرك لمجرد الإرادة ، هذه عزة متَّعكَ الله بها في ذاتك ، فكيف تذلّ نفسك بالتوكل على مثلك ؟ وكيف ترد يد الله الممدودة إليك ؟ فإنْ أخذتَ بالأسباب ، وأعملتَ عقلك وجوارحك فيما أعطاه اللهُ لك فأنت متوكل ، وحقيقة التوكل أنْ تعمل بالجوارح وتتوكل على الله بالقلب ، وتوقَّع أنْ يصيبك الابتلاء فتعمل وتأخذ بالأسباب ولا تعطيك ، كالذي يزرع الأرض وتأتي جائحة فتقضي على المحصول مثلاً .