Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 39-40)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هنا تأمل هذا النداء : { يٰقَوْمِ } [ الزمر : 39 ] فبعد عنادهم وإصرارهم على باطلهم وعدم قبولهم للحجج والبراهين ما يزال الحق سبحانه يتحنَّن إليهم ، فيأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أنْ يناديهم بهذا النداء الحبيب : يا قوم يعني : أنا لستُ غريباً عنكم ، وأنتم أهلي وعشيرتي التي أعيشُ بينها . لما دعاهم رسول الله فلم يستجيبوا ولم تفلح معهم الحجج والبراهين التي تثبت بطلان عبادتهم للأصنام ، أمره ربه أنْ يقول لهم : { يٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُـمْ إِنِّي عَامِلٌ … } [ الزمر : 39 ] معنى : اعملوا على مكانتكم كما تقول لمن لم يستجب لك : اعمل ما بدا لك . أو أعلى ما في خيلك اركبه . فالمعنى : اعملوا على مكانتكم . يعني : خذوا كلّ إمكانياتكم ضدي . لماذا ؟ لأنه متوكل على ربِّه وهو كافيه ، فهو لا يقولها مجازفةً ولا استكباراً ، إنما يقولها برصيد من قوله تعالى : { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] . وكلمة { مَكَانَتِكُـمْ } [ الزمر : 39 ] عندنا مكان ومكانة ، المكان هو : الحيز الذي يشغله الشيء . والمكين هو : الذي يشغل المكان ، فالكوب مثلاً مكان والماء فيه مكين ، فأنت ذاتك لك مكان تشغله حتى لو اضطهدك أحدٌ فأخرجك منه لا بُدَّ أنْ يذهب بك إلى مكان آخر . فإذا اتسع بك هذا المكان وصارتْ لك سلطة على مكان أوسع منه لك فيه سلطان وأمر ونهي فهذه مكانة ، فيقال لمن اتَّسع جاهه وسلطانه : له مكانة . فالتاء الزائدة هنا يسمونها تاء المبالغة . كما نقول في المبالغة في العلم عالم وعلاَّم وعلاَّمة . فكلمة علاَّمة هي قمة العلم وتُقال لمن بلغ في مجاله مبلغاً بحيث لا يخفى عليه منه شيء . فإنْ قلتَ : فلماذا وصف الحق نفسه سبحانه بعلاَّم ، ولم يُوصَف بعلامة ؟ نقول : لأن علم الله تعالى لا تفاوتَ فيه ، ليس فيه جزئي وكلي ، فلا يُوصف الحق سبحانه بهذه الصفة . ومن المكانة قوله تعالى في قصة سيدنا يوسف عليه السلام : { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ } [ يوسف : 56 ] أي : لم نجعل له مكاناً ، إنما جعلنا له مكانة وسلطاناً واسعاً ينقله هنا وهناك حيث يشاء ، والإنسان يكون له مكان فتأتي قوة تُمكِّنه في المكان ، كما في قصة سيدنا يوسف عليه السلام ، وقد يكون له المكان فتأتي قوة فتُزيله عنه كما أخذني ورماني في زنزانة . وسبق أنْ قلنا : إن في اللغة همزة تسمى همزة الإزالة ، إذا دخلتْ على فعل تزيله ، كما تقول : أعجم الكلام ، يعني : أزال عُجْمته وأبان معناه ، ومن ذلك قول رسول الله في مناجاته لربه : " لك العُتْبى حتى ترضى " يعني : إن كان حصل منه شيء يغضبك فأنا أزيل عتابك عليَّ حتى أبلغ رضاك عني . ونقول : عتب فلانٌ على فلان فأعتبه يعني : أزال عتابه بأنْ يعتذر له أو يصالحه ، لأن العتب لوْم على شيء ما كان يصح بين المحبين ومن ذلك قوله تعالى في الكلمة التي معنا المكانة : { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 71 ] . فمعنى أمكن منهم يعني : أزال مكانهم ، ونقول : فلان تمكن من فلان . يعني : قدر عليه وأزاله عن مكانه أو مكانته . إذن : فكلمة المكانة هي ما لك عليه سلطانٌ وولاية تُعينك على مرادك ، فالمكان إذا بالغتَ فيه فهو مكانة والتاء للمبالغة ، وتأتي أيضاً للجاه ينبسط على ما لا يدخل في مِلْككٍ تصرفاً ، وإنما يدخل في ملكك مهابة لذلك لما قُتِل مالك قالوا : مالك كان يحمي مواقع السحاب . يعني : أينما تمرّ السَحابة وتمطر فمطرها يحميه مالك ، بحيث لا يتعدى عليه أحد ، وما كان هذا إلا لمكانته في القوم فحمى مواقع السحاب في غير بلاده . وقوله : { إِنِّي عَامِلٌ } [ الزمر : 39 ] يعني : أنتم اعملوا على مكانتكم واستطاعتكم في العناد والاضطهاد والإيذاء ، فأنا عامل على مكانتي من الدعوة والنُّصْح لكم والحرص على هدايتكم ، فهذه رسالتي ولن أتخلَّى عنها ، وسوف أبالغ في نَشْرها وأتحمل اضطهادكم لي ولأصحابي ، ولن يُثنيني شيء عن مرادي . وقوله : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ الزمر : 39 ] المعلوم هنا : { مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } [ الزمر : 40 ] أي : في الدنيا { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } [ الزمر : 40 ] أي : في الآخرة ، وتأمل هنا كلمة سوف التي تدل على الاستقبال ، فلم يَقُلْ حالاً الآن ، لأن الإسلام بدأ غريباً وانتشر أول ما انتشر بين الضعفاء والعبيد الذين اضطهدوا وماتوا وأُوذُوا وأُخرجوا من ديارهم وأموالهم في سبيل دعوة الحق . فأراد الحق سبحانه أن يُمحِّصَ أهل الإيمان الذين يحملون هذه الدعوة ، وأنْ يُميز منهم ضعافَ العقيدة ، وينفي عنهم أهل الخور والنفاق الذين لا يصلحون لحمل هذه الرسالة ، لذلك كان الوحي كل فترة ينزل على رسول الله بأمر عزيز ، وكلما نزل أمر من هذه الأمور نفى بعضهم حتى لم يَبْقَ حول رسول الله إلا صِحَاح الإيمان أقوياء العقيدة . وفي هذه الآية تهديدٌ من رسول الله للقوم المكذِّبين بأحداث سوف تأتي ، هذا التهديد دليلٌ على ثقته صلى الله عليه وسلم بأن مَنْ أوحى إليه بهذا التهديد قادرٌ على أنْ يُبرزه كما أخبر به ، وإلا لما قاله رسول الله ، لأن الزمن سيكشف صدق هذا التهديد أو عدم صدقه . كذلك الأمر في الوعد يخبر به رسول الله قبل أوانه ، واقرأ هذا الوعد مثلاً : { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [ القمر : 45 ] هذا وَعْد من الله للمؤمنين جاء في أشد وأحلك الظروف وهم مضطهدون لا يستطيعون حمايةَ أنفسهم ، لذلك لما نزلتْ هذه الآية قال عمر رضي الله عنه : أيّ جمع هذا ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا ؟ فلما رآها في بدر قال : صدق ربي وصدق رسوله ، وهذا الوعد لا يطعن في الدعوة إنما يريد أنْ يؤكدها . إذن : صِدْق في الوعد ، وصدق في الوعيد . وقلنا : إن صدق الرسول في أمور تتعلق بأمته شيء ، وصدقه فيما يتعلق بذاته شيء آخر ، صدقه فيما يتعلق بذاته آكد ، وذكرنا قصة المرأة التي أسلمتْ حينما قرأتْ تفسير قوله تعالى لرسوله : { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } [ المائدة : 67 ] فلما أعطاه ربه الأمان وأنه لن يُغتال من جانب الناس صرف صلى الله عليه وسلم حُراسه ولم يُبْق عليهم مع هذا الوعد ، فوقفتْ هذه المرأة وقفةً عقلية وقالت : لو أنه خدع الناس جميعاً ما خدع نفسه ، إذن : هذه ثقة من رسول الله بوعد الله . وقوله تعالى : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ الزمر : 39 ] ولم يقل ترون أو تنظرون لأن العلم أوسع وأعمّ من النظر ، فالأحداث التي ستأتي ربما تكون بعيدة من مَرْآهم تَحدث في أماكن أخرى يراها البعض ولا يراها البعض ، أما العلم فينقل إليك ما تقع عليه جوارحك ، وما تقع عليه جوارح الآخرين . إذن : بالعلم تأخذ علم الغير ، أنت حينما ترى وتعقل تهتدي إلى الحكم بتصوّر العقل ، وبالعلم تستفيد بما عقله الآخرون . إذن : فالعلم أوسع دائرةً من معطيات العقل والجوارح . وقوله : { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } [ الزمر : 40 ] كلمة مقيم جاءت لترد على كلام سبق أنْ قالوه هم ، لأن الحروب عندهم كانت تستمر طويلاً حتى أربعين سنة ، وتكون بينهم سجالاً يوم لك ويوم عليك ، فربما ظنوا العذاب كذلك فترة وتنتهي ، فأراد أنْ يؤكد لهم أن العذاب إذا حَلَّ بهم فليس فيه سجال كسجال الحرب ، إنما هو مقيم دائم .