Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 46-46)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذا أمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر الوعد لأهل الخير ، والوعيد لأهل الشر ، واستوفى الأمرين مع الجماعتين ، قال لرسوله بعد أنْ بلغت الوعد والوعيد : ليس لك إلا أنْ تلتجئ إلى الله ، فهو سبحانه وحده الذي يحكم بينك وبين هؤلاء ، لأنك استنفدتَ معهم كل أوجه الدعوة الحسنة والبلاغ الجميل ، وما داموا مُصرِّين فدَعْهُم إلى أنْ يحكم الله بينك وبينهم يوم القيامة . ولا تحزن يا محمد ، لأن الله لا يحكم إلا بالحق ، وثقْ أنه الذي اختارك للرسالة ، وأنه ناصرك ومُظهر دينك ، وسوف ترى هذه النُّصْرة في الدنيا قبل الآخرة ، وفعلاً رآها الرسول قبل موته . واقرأ قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا … } [ الرعد : 41 ] . أي : ننقص أرض الكفر ونقصان أرض الكفر زيادةٌ في أرض الإيمان ، وهذه آية رأوْهَا بأعينهم { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } [ الرعد : 41 ] فكان عليهم أنْ يأخذوا من ذلك عبرة ، وأنْ ينتهوا عن عنادهم ، ويعلموا أن الله ناصرُ دينه ومُتم أمره ، فكلّ يوم يمرّ كانت أرض الإيمان تزداد ، وأرض الكفر تنقص ، ومحمد يأتيه الموالي والفقراء والمساكين ، ثم أتاه بعد ذلك الكبراء والصناديد والأعيان . الحق سبحانه وتعالى يُعلِّم رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويُعلِّمنا كيف ندعوه ، فقال : قُلْ أي : يا محمد اللهُمَّ يقول سيدنا سعيد بن المسيِّب : لا أجد في القرآن آية أَرْجَى للداعي من قوله سبحانه : { قُلِ ٱللَّهُمَّ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ … } [ الزمر : 46 ] وما علمه الله أن يدعو إلا لسبقه في القدر أنْ يجيب . إذن : الحق سبحانه لم يترك رسوله يدعوه بلفظ من عنده إنما علَّمه بِمَ يدعو ، فلا بُدَّ أنْ يُكتبَ له القبول ، كما لو أن شخصاً أعطاك المفتاح ، هذا يعني أنه يقبلك أنْ تدخل المكان . وهنا يجب أن نقف على روعة الأداء البياني وعظمة الدعاء والنداء في اللَّهُمَّ وهي عبارة عن لفظ الجلالة الله أُلحقتْ به ميم مُشدَّدة للدعاء والنداء ، ونحن نعرف أن النداء طلبُ إقبال المخاطب على المتكلم ، وللنداء حروف معروفة حسب قرب المنادِي أو بُعْده من المنادَى ، فنقول في نداء القريب : أمحمد . وفي نداء البعيد : يا محمد والأبعد : أيا محمد … إلخ . إذن : فحرف النداء نفسه يحدد موقع المدعو ، فهل يجوز استخدام هذه الحروف في نداء الحق سبحانه فنقول مثلاً : يا الله ؟ إنه من الأدب في نداء الحق سبحانه ألاَّ نناديه سبحانه كما ننادي غيره لأنه سبحانه أقربُ إلينا من حبل الوريد ، فلا يصح أنْ نقول : يا الله أو أيا الله ، فهذه مراتب للبُعْد والله قريب . لذلك لا تجد القرآن يستخدم هذه الحروف أبداً في ندائه سبحانه ، إنما استخدم اللهم للدعاء ، وعلَّمنا أنْ ندعوه بها ، وقد ألحق بها الميم المشدَّدة بدلاً من حروف النداء قبل الاسم المنادى ، فالميم عِوَضٌ عن حرف النداء المحذوف فدلَّتْ الميم المشددة على النداء ، وعلى ذِلَّة الطلب منك . وحين نستقرئ القرآن الكريم نجد أن كلمة الله وردت بالرفع 985 مرة ليس فيها دعاء إلا باللهم في خمسة مواضع هي : هذه الآية التي معنا ، ثم قوله تعالى : { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ … } [ آل عمران : 26 ] . وقوله : { قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وَٱرْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } [ المائدة : 114 ] . وقوله : { وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] . وقوله : { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ يونس : 10 ] . أما في نداء الربوبية فنقول : يا رب ، وفَرْقٌ بين نداء لفظ الجلالة الله وبين نداء لفظ الربوبية رب ، فالألوهية تكليف أما الربوبية فعطاءٌ ومنعم ، فما دام الربُّ معطي نعمة . فنقول في ندائه : يا رب لأن الربوبية إيجادٌ من عدم وإمداد من عُدْم وتربية ، إذن : أنت المستفيد في عطاء الربوبية ، أما الألوهية فتكليف بافعل ولا تفعل . وكلمة { فَاطِرَ … } [ الزمر : 46 ] أي : خالق ومُبدع ومُوجد الوجود من العدم على غير مثال سابق يعني : أمر ابتكاري جديد فإنْ كان الإيجاد على مثال سابق يعني محاكاة فلا يسمى فاطر . وقوله { ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ … } [ الزمر : 46 ] اختار السماوات والأرض ، لأنها الكائن الذي لا يغيب عن الإنسان ، فالأرض تُقِلُّه والسماء تظله فهو لا ينفكّ عنهما لحظة من حياته ، وهناك نِعَم أخرى قد تغيب عن الإنسان في وقت كالماء مثلاً . { عَالِمَ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ … } [ الزمر : 46 ] يمتنُّ الحق سبحانه بعلم الغيب . فكيف يمتنُّ بعلم الشهادة ، وهي معلومة للناس مُشَاهدة ؟ قالوا : لأن الله غيْبٌ ، وقد نفهم أن هذا الغيبَ كالغيب بالنسبة لك ، فأنت تشاهد مَنْ معك في البيت ، لكن لا تشاهد مَنْ هو خارج البيت ، فهو بالنسبة لك غَيْبٌ ، لكن الحق سبحانه يعلم الغيب ويعلم المشَاهد ما غاب عنكم والمشهود لكم ولغيركم . وقوله : { أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ الزمر : 46 ] هذا هو المرجع النهائي في الخلاف بين الحق والباطل ، يوم الفتح الذي كان ينتظره هؤلاء ويستعجلونه ، بل ويستهزئون به كما قال سبحانه حكايةً عنهم : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } [ الأعراف : 70 ] . وقولوا : { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ السجدة : 28 ] فيردّ عليهم الحق سبحانه : { قُلْ يَوْمَ ٱلْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } [ السجدة : 29 ] يعني : لو جاءكم هذا اليوم فلن ترجعوا بعده مرة أخرى لتجدوا إيماناً ولا توبة . ونلحظ هنا أن القرآن استعمل كلمة عباد للدلالة على الفريقين : المؤمنين ، والكافرين ، والغالب أن تستخدم كلمة العباد في الطائعين الملتزمين بالمنهج كما في قوله سبحانه : { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] . فهل يُقال للكافرين وللعاصين أيضاً عباد ؟ قالوا : نعم : لأن الإنسان له وضعان بالنسبة لربه تعالى : وَضْع له فيه اختيار ، وهي قوة الاختيار التي خلقها الله في الإنسان بحيث يفعل ما يشاء ، حتى إنه يفعل لما لا يريده منه ربه سبحانه . وهناك وَضْع آخر ليس له فيه اختيار ، وهي الأمور القهرية التي لا اختيارَ للعبد فيها . فالإنسان مثلاً قد يتمرد على منهج ربه ، وقد يخالفه ويشذ عنه ، فنقول له : ما دُمت قد ألفتَ التمرد فتمرد على كل شيء ، تمرد على المرض تمرد على الموت … إنه لا يستطيع ، لأنها أمور قهرية لا اختيار له فيها . إذن : فهو في هذا الوضع محكوم بالعبودية قهراً ، فهو لا يخرج عن عبوديته لله حتى لو كان كافراً ، وحين نقول للكافرين عباد فلأنهم في شق من تصرفاتهم لا يتأبَّوْنَ فيه على الله ، بل هم فيه مقهورون . لذلك قال تعالى عنهم في الآخرة : { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا ٱلسَّبِيلَ } [ الفرقان : 17 ] . هذا خطاب للمضلِّين فسمَّى الضالين عباداً ، لماذا ؟ لأن الكلام هنا في الآخرة حيث يستوي الجميع ، فالكل هناك طائع صالح مؤمن ، كلهم في الآخرة عباد وعبيد . أما في الدنيا فكلهم عبيد وبعضهم عباد .