Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 39, Ayat: 52-52)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لأن قارون اغترَّ بماله وجاهه ، وما كان فيه من غنى وزَهْوة في قومه ، حتى قال { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ } [ القصص : 78 ] فأراد الحق سبحانه أنْ يُصحح له المسألة ولمَنْ كان على شاكلته ، فقال سبحانه : { أَوَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } [ الزمر : 52 ] يبسط يعني : يُوسِّع على مَنْ يشاء ، ويقدر يعني : يُضيق على مَنْ يشاء ويقبض ، وكما نقول : يعطي مَنْ لا حيلَةَ له ليتعجب مَنْ له حيلة . إذن : المسألة في الرزق والعطاء ليست شطارة ومهارة في تناول الأشياء ، إنما هي قدر قدَّره الرازق سبحانه . وقد ورد في الحديث القدسي قوله تعالى : " يا ابن آدم … خلقتُك للعبادة فلا تلعب ، وقسمتُ لك رِزقك فلا تتعب ، فإنْ أنت رضيتَ بما قسمتُه لك أرحتُ قلبك وبدنك وكنتَ عندي محموداً ، وإنْ لم ترْضَ بما قسمتُه لك فوعزّتي وجلالي لأُسلِطنَّ عليك الدنيا تركض فيها ركْضَ الوحوش في البرية ، ثم لا يكون لك منها إلا ما قسمتُه لك وكنتَ عندي مذموماً " . فالرزق قسمه الرازق سبحانه ، ولا يُشترط له مهارة ولا رجاحة عقل وحُسْن تفكير ، لذلك قال أبو العتاهية : @ يُرزَقُ الأحْمَقُ رزْقاً واسعاً وَتَرى ذَا اللُّبِّ محرُوماً نَكِد @@ والحق سبحانه وتعالى يرزق الإنسان من حيث لا يحتسب ، لذلك يُحكى أن رجلاً راعياً وهو يسير في الطريق إذ عثرتَ رِجْله بحجر ، فوجد عنده بئراً فجعل يتحسَّس ما في البئر ، فوجد شيئاً له صوت شخشخة كصوت الذهب والفضة ، فبحث عنه فوجدها غرارة مملوءة بالذهب والفضة فأخذ منها ما يملأ جيوبه وما يستطيع حمله ، وترك الباقي في مكان يعلمه ليعود إليه حين الحاجة . وبعد فترة نفد ما معه من المال ، فجاء إلى نفس المكان ليأخذ من هذا المال فوجد شخصاً آخر قد سبقه إليه وأخذ ما تبقّى منه ، فلما رآه يحمله على ظهره نظر إليه . فقال الرجل : رزقني الله ما ظننته أنه لك ، لكن هو لي . لكن نلحظ في مسألة الرزق أن الناس يُخطئون حين يظنون ويُحجِّمون الرزق في المال وحده ، فالرزق عندهم هو الغِنَى وكثرة المال ، لكن الصواب أن نقول : الرزق هو كل شيء يُنتفع به وتستفيد منه ، وعليه فالعلم رزق ، والحلم رزق ، والأمانة رزق ، والصحة رزق … إلخ . لذلك ينبغي على الغني الذي رُزِق المال الوفير أنْ يسأل نفسه حين يرى فقيراً : يا ترَى ما رزق هذا الفقير ؟ وبم تميَّز عني ؟ ربما كان رزقه في عقله أو في أدبه أو في حلمه أو في سمعته الطيبة بين الناس أو في عافيته . وسبق أنْ قلنا : إن مجموع المواهب عند أيِّ إنسان تساوي مجموع المواهب عند الآخر ، فهذا عنده المال بنسبة عشرة على عشرة ، لكنه حُرِم نعمة الولد بنسبة صفر على عشرة وهكذا لأن الخَلْق جميعاً عيال الله ، ولا يوجد منهم مَنْ هو ابن الله أو بينه وبين الله نسب . إذن : علام يوجد التمييز بين واحد وآخر ؟ نقول : الرزق يحتاج إلى جهات متعددة لذلك يوزع الرازق سبحانه الأسباب فلا تستقيم الحياة إنْ كان الناس جميعاً أغنياء ، أو كان الناسُ جميعاً عقلاء أو علماء لأن العقل الواحد مثلاً يحتاج إلى أكثر من جارحة من الجوارح تخدم تفكيره ، فالمهندس مثلاً حين يرسم تصميماً لعمارة سكنية ، هو مهندس واحد لكن يحتاج إلى كم عامل لتنفيذ هذا العمل ، ولخدمة هذه الفكرة الهندسية ، فالعامل البسيط الذي يحفر الأرض لوضْع الأساس عنده من المواهب ما ليس عند المهندس ، وهكذا تُوزَّع المواهب وتُوزَّع الأرزاق . والرزق قد يكون بزيادة الدخل ، وقد يكون سلباً بنقص المنصرف ، فنجد مثلاً رجلاً راتبه الشهري مائة جنيه ويتعجب الناس كيف يعيش بهذا المبلغ ، ونسوا أن المهم في الرزق أن يكون من الحلال ، فالله يبارك في القليل منه ، حتى يحلّ محل الكثير ، فتجد هذا الرجل مثلاً إذا مرض ولده يكفيه قرص أسبرين والأم تعد له كوب شاي ويُشفى الولد بإذن الله . بينما نجد آخر يحصل على أضعاف هذا المبلغ ، لكنه لا يتحرَّى الحلال في كسبه ، فإذا مرض ولده ذهب به إلى الطبيب ، وأجرى التحاليل وأوهم نفسه أن المرض خطير ، حتى يصرف على الولد مبالغ كبيرة . لذلك ورد في الحديث الشريف : " مَنْ أصاب مالاً من مهاوش أذهبه الله في نهابر " . إذن : رزق الإيجاب أنْ يزيد المورد ، ورزق السلب أنْ يقلَّ المنصرف ، لذلك نلحظ مثلاً موظفاً من أصحاب الرواتب العالية وزميله له راتب متواضع يذهبان إلى السوق ، الأول يشتري الرومي أو السمك الكيلو بعشرة جنيهات ، أما الآخر فيشتري السمك العادي الكيلو مثلا بأربعة جنيهات ، ذهب كل منهما إلى بيته وأكل كل منهما سمكاً ، لكن الأول صرف أضعاف أضعاف الآخر ، وربما النتيجة واحدة ، وكل منهما راضٍ بما أخذ وبما أكل ، هذا نسميه رزق السلب . والمؤمن ينبغي له دائماً أنْ يضع مسألة الاقتصاد في النفقات في باله ، وأنْ يعلم أن رزق السلب أوسع من رزق الإيجاب ، لأن رزق السلب منع ألماً ، أمَّا رزق الإيجاب فقد يأتي بالألم . وقوله سبحانه : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ الزمر : 52 ] أي : يؤمنون بالرازق الذي سمَّى نفسه الباسط ، وسمى نفسه القابض ، وما دام الحق سبحانه سمَّى نفسه الباسط وسمى نفسه القابض فلا بدَّ أنْ يكون لكل صفة متعلق ، ولا بدَّ أنْ يوجد في الخَلْق مَنْ يبسط الله له الرزقَ ، ومَنْ يقبض عنه ويُضيِّق عليه ، وهذا وذاك بحكمته تعالى وقدره سبحانه . فمَنْ وسَّع الله له رزقه ، وبسط له عليه أنْ يشكر ، ومن قُدِر عليه رزقه وضُيِّق عليه يجب أن يصبر وأنْ يرضى ، وأنْ يسير في حركة حياته على قدر رزقه ، ولا يفتح على نفسه أبواب المسألة ، فمَنْ رضي بقدره أعطاه الله على قدره سبحانه لذلك تجد عظماء العالم وأصحاب الكلمة والصِّيت لو نظرت إليهم في أوليات حياتهم لوجدتهم رَضُوا بقدر الله فيهم وعاشوا في مستوى دخولهم ، فتحقق فيهم قوله : " مَنْ رضي بقَدَري أعطيته على قَدْري " . ثم يقول الحق سبحانه : { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ … } .