Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 39, Ayat: 56-56)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذا نموذجٌ للنفس حين تتحسَّر وتلوم نفسها ، لماذا أوصلتَ نفسك إلى هذا الموقف ، طلبنا منك أنْ تنيبَ إلى الله ، وأنْ تسلمَ له في أحكامه ، وأن تتبع أحسن ما أُنزل إليك لترفع عن نفسك الحرج وتُجنِّبها اللوم ، ولا تقف هذا الموقف لكنك لم تستجب . كلمة { يٰحَسْرَتَا } [ الزمر : 56 ] هذا أسلوب نداء ، فأيُّ شيء ينادي العبد ؟ ينادي الحسرة والحزن والأسى يقول : يا حسرتي احضري تعالَيْ ، فهذا أوانك ، يتحسَّر على نفسه بعد أن فاتته الفرصة ، ومعلوم في النداء أنه لا ينادي إلا النافع لكن الموقف هنا موقف تحسُّر وندم ، والحسرة هنا مضافة لياء المتكلم والألف للإطلاق . ومعنى { عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ } [ الزمر : 56 ] على ما قصَّرت في حق الله وفي طاعته ، والتفريط هو إهمال ما يجب أنْ يتقدم ، لأن الفرصة إنْ فاتت لا تُعوَّض ، كالتلميذ الذي يهمل دروسه ونراه يهتم مثلاً ليلة الامتحان . نقول له : يا بني قبل الرِّماء تُملأ الكنائن هذا مَثَلٌ يُضرب لمن لا يستعد للأمر قبل أوانه ، فالصياد يخرج للصيد وقد أعدَّ له أدواته ، حتى إذا ما وجد صيده بادره قبل أنْ يهرب ، لأن الغزالة مثلاً لا تنتظر الصياد حتى يملأ كنانته أو يُعدّ سهمه . إذن : أنت تتحسَّر على نفسك وتلومها ، لأنك لم تستغل الفرصة وأهملتَ حتى فاتتك وهي لا تُعوَّض ، فليس أمامك إذن إلا التحسُّر وعضّ أصابع الندم ، فكأن الأمرين اللذين سبقا هذه الآية وهما : { وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ … } [ الزمر : 54 ] { وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ … } [ الزمر : 55 ] كان ينبغي العمل بهما ليحموا أنفسهم من أنْ يقولوا ساعةَ يرون العذاب { يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ … } [ الزمر : 56 ] فرحمته تعالى ورفقه بعباده لا يحب منهم أنْ يقولوا هذه الكلمة ، فالله لا يريد لعبده أنْ يقف موقف التحسُّر ، ولا يرضى له ذلك ، فحين يقول لنا : لا تقنطوا من رحمة الله ، وأنيبوا ، وأسلموا ، وابتغوا أحسن ما أنزل إليكم يريد أن ينبه الغافل ويحذر مَنْ يفكر في الكفر ويُذكِّره بالعواقب ، وبما سيكون منه حين يرى العذاب من حسرة . والحسرة أسف وندم على خير فات لا يمكن تداركه ، والكافر لا يتحسَّر حسرةً واحدة إنما حسرات كثيرة ملازمة له ، فكلما رأى العذاب الذي ينزل به تحسَّر ، وكلما رأى المؤمنين في نعيم تحسَّر ، وكلما تذكَّر دُنياه تحسَّر . وقوله تعالى : { وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ } [ الزمر : 56 ] يعني : الأمر لم ينته عند حَدِّ التفريط والتقصير في جنب الله ، إنما تعدَّاه إلى السخرية ممَّنْ يقفون في جنب الله ، فالذنب مُضَاعف ، وسبق أنْ ذكرنا نموذجاً من سخرية أهل الباطل بأهل الحق ، واستهزائهم بهم في قوله تعالى من سورة المطففين : { إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ المطففين : 29 - 36 ] . وكثيراً ما نسمع أهل الباطل يسخرون من أهل الحق : يقولون فلان هذا صُللي ، يا عم خذنا على جناحك … إلخ لكن يكفي أهل الإيمان أن الله هو الذي سيأخذ لهم حقهم في دار البقاء فإنْ سخروا منكم في الدنيا الفانية فسوف تسخرون منهم في الباقية الدائمة ، وإنْ ضحكوا منكم ضحكاً موقوتاً منقطعاً فسوف تضحكون منهم ضحكاً أزلياً باقياً . وفي هذه الآية ملحظ { وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ } [ الزمر : 56 ] حين نتتبع كلمة النفس في القرآن الكرم نجد أنها تأتي دائما مؤنثة ، كما في قوله تعالى : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ } [ يوسف : 53 ] وقوله : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [ الشمس : 7 - 8 ] . أما هنا فغلَّب التذكير ، فقال حكاية عن النفس : { وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ } [ الزمر : 56 ] ولم يقل الساخرات ، لماذا ؟ قالوا : النفس مؤنثة ، فإن أُريد بها الإنسان تُذكَّر . وبعد أن حذرنا الحق سبحانه من موقف التحسُّر والندامة في الآخرة يحذرنا من شيء آخر تتعرض له النفس حين ترى العذاب ، فيقول سبحانه : { أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي … } .