Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 55-55)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
كلمة أحسن أفعل تفضيل يدلّ على المبالغة ، ونفهم منه أن الأقل في الخير حسن ، نقول : هذا حسن وهذا أحسن منه . والأمر هنا باتباع الأحسن ، فمثلاً الحق سبحانه يُنزِّل من الأحكام ما يرضي النفس البشرية كي لا تمتلئ غيظاً وكرهاً للناس ، فيقول سبحانه : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [ النحل : 126 ] . يعني : إياك أنْ تتجاوز المثلية إنْ أردتَ أن تعاقب ، فإنْ قدرتَ على هذه المثلية دون أن تتجاوزها فهذا حسن ، لكن الأحسن منه أنْ تعفو كما قال سبحانه في آية أخرى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ … } [ البقرة : 178 ] . وقال : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [ الشورى : 43 ] . هذا هو الأحسن ومن ذلك قوله تعالى في مسألة التبني : { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } [ الأحزاب : 5 ] تعرفون قصة تبنِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة ، وأن زيداً خُيِّر بين أهله وبين رسول الله فاختار البقاء مع رسول الله ، وقال : ما كنتُ لأختار على رسول الله أحداً لذلك كافأه رسول الله ونسبه إلى نفسه ، فقال : زيد بن محمد . فلما أراد الحق سبحانه أن يحرم التبني وأنزل { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ } [ الأحزاب : 5 ] أنصف سيدنا رسول الله وجعل فعله حسناً ، لكن مراد الله أحسن وفعل رسول الله قِسْط ، واختيار الله أقسط { هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } [ الأحزاب : 5 ] والحكمة من { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ } [ الأحزاب : 5 ] حتى لا تهدروا سبب الوجود وهو الأب ، لأن إهدار سبب الوجود المباشر وهو الأب يُجرِّئك أن تنكر سببَ الوجود الأعلى سبحانه . أو نقول : معنى { وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ } [ الزمر : 55 ] أن القرآن نزل وفي القوم ديانتان اليهودية وكتابها التوراة ، والنصرانية وكتابها الإنجيل ، ولما نزلتْ هذه الكتب وغيرها كان لها أناس آمنوا بها ، وآخرون كفروا وأشركوا ، بل ومنهم ملاحدة . فالأمر في وَاتَّبِعُوا أمر للجميع يعني : يا مَنْ آمن بموسى ، ويا مَنْ آمن بعيسى ، لقد كان هذا الدين في وقته حسناً ، أما الآن فقد جاء الإسلام الدين الخاتم المهيمن على كل الأديان ، وأصبح هو الأحسن الواجب عليكم اتباعه . ومرة يكون أفعل التفضيل يعطي للواقع ، لكنه لا ينظر إلى المقابل وهو الأقبح ، إنما ينظر إلى المساوي في الصفة بالقلة ، إلا في شيء واحد لاحظناه فيما يتعلق بالحق سبحانه وتعالى . فمن أسمائه الكبير وليس من أسمائه الأكبر ، مع أنه كان المفروض حسب القاعدة أن نقول الأكبر لأنها مبالغة من الكبير فلماذا إذن ؟ نقول : كلمة أكبر وردتْ على أنها صفة للحق سبحانه نسمعها كل يوم في كل أذان وفي كل إقامة للصلاة ، والصلاة عبادة لها خصوصيتها ومنزلتها في الدين ، فهي العبادة التي تتكرر خمس مرات كل يوم ، وهي العبادة التي لا تسقط بحال عن المؤمن ما دام فيه نفَسٌ يتردّد ، وهي العبادة التي لم تُشرع بالوحي كباقي العبادات ، إنما شُرعت بالمباشرة في رحلة المعراج ، هذه العبادة حين ننادي لها نقول : الله أكبر ولم يقل : الله كبير . وهنا موضع العظمة مع أن أكبر أبلغ في المعنى من كبير ، لأن التكاليف من الحق سبحانه لا تريد منك مجرد الصلاة والصيام والحج … إلخ إنما تريد منك أنْ تؤدي كل حركة نافعة في الحياة مُعينة للتدين لذلك قالوا في القواعد الشرعية : ما لا يتم الواجبُ إلا به فهو واجب . ولك أنْ تتأمل مثلاً فريضة الصلاة ، كم من الأعمال لا بدّ منها لتؤدي هذه الفريضة ؟ خُذْ مثلاً ستر العورة وهي واجب لا تتم الصلاة إلا به ، لكي تستر عورتك لتصلي تحتاج إلى ثوب تلبسه ، كيف يتوفر لك هذا الثوب ؟ إنه يحتاج إلى خياط يخيطه ، ويحتاج لتاجر التجزئة الذي تشتري منه القماش ، ثم تاجر الجملة ، ثم مصنع النسيج والغزل والصباغة والمحلج ، ثم الفلاح الذي يزرع القطن ويجمعه . كل هذه العملية تحتاج إلى عُدَد وماكينات وآلات وأيدٍ عاملة ، كذلك الحال في الطعام ، الذي لا بُدَّ لك منه لتقوى على أداء الفرائض ، كل هذه الحركة من أجلك ، تخدمك وتعينك ، فهذه الأعمال الدنيوية التي لا تقوم الديانة إلا بها هي واجبة لا يُستهان بها ، بل ينبغي المحافظة عليها وتقديسها ، لأنها في منزلة الواجب . وحين يأخذك ربك من هذه الأعمال إلى الصلاة مثلاً لا يأخذك من عمل تافه هيِّن لا قيمة له ، إنما يأخذك من عمل هو في حَدِّ ذاته عبادة ، لذلك جعله كبيراً أما الذي يناديك للصلاة فأكبر من هذا كله ، لذلك لم يُنادِ الحق سبحانه المؤمن في صلاة إلا في صلاة الجمعة ، حيث قال سبحانه : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ … } [ الجمعة : 9 ] . وخَصَّ البيع دون سائر الأعمال ، لأنه ثمرة باقي الأعمال من تجارة وزراعة وصناعة ، والإنسان أحرص على البيع منه على الشراء ، لأن البيع هو الصفقة عاجلة الربح لذلك نجد الإنسان حريصاً أن يبيع على خلاف المشتري ، فالمشتري مثلاً حين لا يجد السلعة التي يريدها يقول بركة يا جامع لأنه سيدفع من جيبه ، أما البائع فيأخذ ويربح . فإذا ما انتهتْ الصلاة ردَّك ربك إلى العمل الذي استدعاك منه وأعادك إلى دنياك : { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ … } [ الجمعة : 10 ] . إذن : لا تستهنْ بعمل الدنيا ولا تظنه بعيداً عن الدين ، بل هو جزء منه ، وما لا يتم الواجب الديني إلا به فهو واجب ، والذي يعصي في هذا مثل الذي يعصي في هذا ، فحين نقول في النداء للصلاة : الله أكبر تذكَّر أن غيره كبيرٌ لا يُستهان به ، لكن الذي يعطيك الطاقة أكبر من هذا الكبير ، فلا تنشغل بالكبير عن الأكبر . والآن تتضح الحكمة من أن الله تعالى سمَّى نفسه الكبير لا الأكبر ، فحين نقول : الله كبير هذا يعني أن ما عداه صغير ، لكن لو قلنا أكبر فما عداه كبير . إذن : فحين تقف في أحكامه تعالى أمام حسن و أحسن فاتبع الأحسن مما أنزل : { وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ … } [ الزمر : 55 ] . وقول الحق سبحانه وتعالى : { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ ٱلْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } [ الزمر : 55 ] . كلمة بغتة يعني فجأة ، والعذاب لا يفاجىء إلا الغافلَ اللاهي الذي يعيش ، وليس في باله هذه المسألة ، وإلا لو كان في باله لاتقاه وتجنَّب أسبابه ، وحين يأتي لا يكون بغتة . لكن كيف يفاجئه العذاب ؟ نقول : ما الفارق بين أن يعيش الإنسانُ في حياته الدنيا وبين أنْ يلاقي العذاب ؟ الفارق بينهما أن يموت ، مجرد أن يموت وتخرج روحه ينتقل من سعة الدنيا إلى عذاب الآخرة إنْ كان من أهل العذاب والعياذ بالله . ومعلوم أن خروج الروح ليس له ميعاد ولا يعلمه أحد ، لأن النفس ربما في أيِّ لحظة يدخل ولا يخرج ، هذه المسألة ينبغي أن تكون على بال المؤمن لا يغفل عنها أبداً .