Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 5-5)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله سبحانه : { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } [ الزمر : 5 ] أي : لم يخلقهما عبثاً إنما خلقهما بالحق ، والحق كما قلنا : هو الشيء الثابت الذي لا يتغير ، كما قال سبحانه في آية أخرى : { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـٰعِبِينَ } [ الدخان : 38 ] . بل خلقهما الله بالحق وبالحكمة وبحساب دقيق وهندسة بديعة لتؤدي مهمتها التي أرادها الخالق سبحانه ، بدليل أنها لا تزال منذ خلقها الله تؤدي مهمتها دون عَطَب فيها ، أو خلاف بين أجزائها . وقوله تعالى : { يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ } [ الزمر : 5 ] تقول : كوَّرْتُ العمامة يعني لَففتها على رأسي ، فصارت مثل الكرة مكورة ، وفي لَفِّ العمامة تغطي اللفَّةُ اللفَّةَ التي تحتها . كذلك الليل والنهار ، جزء من الليل يغطي جزءاً من النهار فيزيد الليل ، أو جزء من النهار يغطي جزءاً من الليل فيزيد النهار . هذا هو واقع الليل والنهار ، فهل الليل والنهار يقتسمان الأربعة والعشرين ساعةً بالتساوي ، كل منهما اثنتا عشرة ساعة ؟ لا ، بل يزيد الليل فينقص من النهار في فصل الشتاء ، ويزيد النهار فينقص من الليل في فصل الصيف . هذا يدل على أن الكون ليس محكوماً بقوانين ميكانيكية جامدة كما يدَّعُون ، بل محكوم بقدرة الخالق سبحانه وحكمته . ولو تأملتَ طول الليل في الشتاء وقِصَره في الصيف لَوجدتَ أن أمور الكون لا تسير هكذا حسبما اتفق ، إنما لكل حركة فيها حكمة ، فحين يقصر النهار في الشتاء يحتاج العامل لأنْ يُجهد نفسه لينهي مهمته في هذا الوقت القصير ، فيتعب نفسه ويُجهدها . ومن الحكمة أن نعطيه فترة أطول يستريح فيها من تعب النهار ، ولا بدّ أنْ تتناسب فترة الراحة مع فترة الجهد المبذول . أما في فصل الصيف فيطول النهار ويوزع العمل على هذا الوقت الطويل ، فيؤدي الإنسان مهمته بأقلّ مجهود ، بالإضافة إلى راحته في وقت القيلولة ، فلا يحتاج إلى ليل طويل للراحة ، لذلك يأتي ليلُ الصيف قصيراً . إذن : فالخالق سبحانه يُكوِّر الليل على النهار ، ويُكوِّر النهارَ على الليل لحكمة في حركة الحياة . وفي موضع آخر عبَّر القرآن عن هذا المعنى بقوله تعالى : { يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ } [ فاطر : 13 ] يعني : يُدخِل كلاً منهما في الآخر لذلك لا يتساوى الليلُ والنهار إلا في فترة قصيرة من العام تقتضيها الحركةُ بينهما . ونفهم أيضاً من قوله تعالى يُكوِّر أن الأرض كروية ، لأن الليل والنهارَ ظاهرةٌ تحدث على سطح الأرض ، وقد أثبتَ العلم هذه الحقيقةَ بالصور التي التقطوها للأرض من الفضاء ، وصدق الله : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [ فصلت : 53 ] . وقوله : { وَسَخَّـرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُـلٌّ يَجْرِي لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى } [ الزمر : 5 ] . الأجل : هو يوم القيامة ، فالحق سبحانه يُطمئن الناسَ أن الشمسَ والقمر آيتان لله تعالى باقيتان خالدتان بقاءَ الدنيا وخلودها ، إلى أنْ ينتهيا معها ، ومع ذلك فكل منهما قائم بذاته بقدرة خالقه ، لا يحتاج إلى وقود ، ولا يحتاج إلى صيانة ، ولا قطعة عيار . . إلخ . { أَلا هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفَّارُ } [ الزمر : 5 ] قلنا : ألا استفتاحية تفيد تنبيه السامع لما بعدها ، فكأن الله تعالى يقول لقد خلقتُ لكم هذا الكونَ المحكمَ البديع ، ووفرتُ لكم مقومات حياتكم ، وأنا الغني عنكم ، العزيز الذي يغلب ولا يُغلب ، ولا يحتاج لأحد . لكن ما مناسبة الغفار هنا ؟ قالوا : لأن الله تفضّل على خَلْقه بهذه الآيات الشمس والقمر والليل والنهار ، وأعطاهم مُقوِّمات حياتهم ، ومع ذلك لا ينظر إلى ذنوبهم وتقصيرهم في حقه تعالى لأنه الغفار ، ويعفو عن كثير . وهذا المعنى أوضحه الحق سبحانه في موضع آخر ، حين نتأمله نجد فيه عجباً ، إنه قول الله تعالى { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] ورد هذا اللفظ في موضعين بصدر واحد وعَجُز مختلف ، فواحدة { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إبراهيم : 34 ] . والأخرى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 18 ] . أولاً : يُلفت أنظارنا هنا في مسألة عَدِّ نعمة الله استخدام إن الدالة على الشك ، لأن عَدَّ نعمة الله مسألة لن تكون ولن تحدث لأن الإقبال على عَدِّ الشيء ناتج عن إمكانية ذلك والقدرة عليه ، أما نعمة الله فمع تقدم علم الإحصاء ودخوله في شتى المجالات ، إلا أن نعمة الله فوق مظنة العَدِّ لكثرتها ، كما أننا لا نفكر أبداً في عَدِّ رمال الصحراء مثلاً . فمعنى { وَإِن تَعُدُّواْ } [ إبراهيم : 34 ] يعني : على فرض أنكم ستُقبِلون على عَدِّها { لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] . ثانياً : كلمة نعمة جاءت هكذا بصيغة المفرد ، والعَدُّ لا يكون إلا للجمع الذي له أجزاء تعدّ : واحد ، اثنان ، ثلاث ، أربع … إلخ فكيف تُعَد النعمة وهي واحدة ؟ قالوا : نعم هي في ظاهرها نعمة واحدة لكن مطمور فيها حين تتأملها نِعَم كثيرة ، فالتفاحة مثلاً ترى في الظاهر أنها نعمة واحدة ، لكن حين تُحللها تجد فيها لوناً وشكلاً وطَعْماً ومذاقاً وعناصر مكونة ومواد غذائية متعددة ، كلها نِعْم من الله . ثالثاً : حين تتأمل عَجُزَ الآيتين - وهو مرادنا من الكلام - تجد في الآية الأولى { إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إبراهيم : 34 ] أي : جاحد لنعمة الله ، منكر لها ، غافل عنها ، مُقصِّر في شُكرها . فهي إذن تتحدث عن حال المنعم من المنعَم عليه ، وكيف أنه قابل النعمة بالكفران ، ولو جازاه المنعم بما يستحق لحرمه النعمة ، لكن يأتي عَجُزُ الآية الأخرى : { إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 18 ] يعني : يغفر لكم جحودكم للنعمة ونكرانكم للجميل ثم بعد المغفرة الرحمة .