Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 63-63)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
القرآن عربي نزل بلغات العرب المتداولة ساعة نزوله ، ومع ذلك ففي القرآن كلماتٌ وألفاظ فارسية أو حبشية أو رومية وهذه الألفاظ لا تخرجه عن كونه عربياً ، لأنها دخلتْ لغة العرب قبل نزول القرآن واستعملها العربي وعرفها ، وصارت جزءاً من لغته . ومن هذه الكلمات مقاليد فلله { مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ الزمر : 63 ] وهي جمع مِقلاد على وزن مفتاح ، أو جمع مقليد ، وفي لغة أخرى يقولون أقاليد جمع إقليد . ومعناها التملُّك والتصرف والحفظ والصيانة ، فلله تعالى مُلْك السماوات والأرض ، وله مُطلق التصرف في أمورهما ، وله سبحانه حفظهما وتدبير شئونهما . وهذه هي القيومية التي لله تعالى ليظل كل شيء من خَلْقه في مهمته ، فالحق سبحانه خلق من عدم ، وأمدَّ من عُدم ، وشرع الشرائع ، وسَنَّ القوانين ، ثم لم يترك الخَلْق هكذا يسير بهذه القوانين كما يدَّعي البعض ، إنما هو سبحانه قائم على خلقه قيُّوم عليهم ، لا يغفل عنهم لحظة واحدة ، واقرأ : { إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ … } [ فاطر : 41 ] . ولو أن الكون يسير بالقوانين التي خلقها الله فيه - كما يقول الفلاسفة - لكانت الأمور تستقر على شيء واحد لا يتغير ، بمعنى أنْ يظلَّ الصحيحُ صحيحاً ، ويظلَّ العزيز عزيزاً ، والغنيُّ غنياً … إلخ لكن الأمر غير ذلك ، لأن لله في خَلْقه قيومية وتصرُّفاً . وقد سأل سيدنا عثمان - رضي الله عنه - سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مقاليد السماوات والأرض ، فقال : " يا ابن عفان ، ما سألني أحدٌ قبلك عنها ، مقاليد السماوات والأرض هي : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله وبحمده ، وأستغفر الله العظيم ، ولا حَوْلَ ولا قوةَ إلا بالله العلي العظيم ، هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، بيده الخير يُحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير . تلك مقاليد السماوات والأرض " . هكذا فسَّر رسول الله كلمة مقاليد السماوات والأرض بأنها كلمات ذِكْر ، كأن الكون كله قائم بهذه الكلمات العقائدية . فكلمة لا إله إلا الله تعني أن الله واحدٌ لا شريكَ له ، فإذا قضى أمراً لا يعارضه معارضٌ ، ولا يعترض عليه معترض ، إنْ أعطى لا أحدَ يمنع عطاءه ، وإنْ منع فلا مُعطي لما منع لذلك يقول سبحانه : { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ } [ الحج : 73 ] بل ما هو أيسر من عملية الخَلْق { وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ } [ الحج : 73 ] وهل تستطيع أنْ تسترد من الذبابة ما أخذته من العسل مثلاً إنْ وقعتْ عليه { ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ } [ الحج : 73 ] . لذلك هذه الكلمة لا إله إلا الله قالها الحق سبحانه أولاً وشهد بها لنفسه سبحانه شهادةَ الذات للذات ، وهذه الشهادة تعني أنه لا يتأبى على الله شيء من الخَلْق أبداً لذلك يقول للشيء : كن فيكون . ثم شهدتْ بذلك الملائكة شهادةَ المشاهدة ، ثم شهد بها أولو العلم شهادة استدلال ، قال تعالى : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ } [ آل عمران : 18 ] فكلمة لا إله إلا الله مِقلاد من المقاليد التي لله تعالى . كذلك كلمة الله أكبر من مقاليد السماوات والأرض ، وسبق أنْ بينَّا أن كلمة الله أكبر هي شعارنا في النداء للصلاة ، مع أن أكبر ليس من أسمائه تعالى إنما من أسمائه تعالى الكبير ، فلماذا لم يستخدم الاسم واستخدم في النداء للصلاة الصفة أكبر . قلنا : إنها أفعل تفضيل من كبير لأن ربك حين يستدعيك للصلاة يُخرجك من عمل الدنيا ، هذا العمل ليس أمراً هيِّناً ولا تافهاً إنما هو عظيم وكبير ، لأن به تقوم أمور الدنيا ، وبه تستعين على أمور الدين ، فهو وإن كان كبيراً فالله أكبر ، فاترك العمل إلى الصلاة ، أما الاسم الكبير لأن ما سواه صغير . وكلمة سبحان والله وبحمده من مقاليد السماوات والأرض ، لأنك ستتعرض لأمور هي فوق إدراكك ولا يقدر عليها إلا الله ، فإياك أنْ تقف أمامها لتقول : كيف ؟ إنما حين يُنسب الفعل إلى الله فقُلْ سبحان الله ، وهذه المسألة أوضحناها في قصة الإسراء لذلك بدأت بهذه الكلمة { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا } [ الإسراء : 1 ] . ولا غرابة في ذلك ، لأن الفعل نُسب إلى الله ولم يقُل محمد صلى الله عليه وسلم : " سريتُ إنما قال : أُسْرِي بي " ومعلوم أن الفعل يتناسب وفاعله قوةً وزمناً ، فإذا كان الفاعل هو الله فلا زمنَ يُذكر . ومثَّلنا لذلك قلنا : لو أنك تريد السفر إلى الإسكندرية مثلاً تركب حماراً أو جواداً أو سيارة أو طائرة أو صاروخاً ، هل سيكون الزمنُ نفس الزمن ؟ لا لأن الزمن يتناسب مع قوة الوسيلة ، فكلما زادتْ القوة قلَّ الزمن ، فإذا كان الفاعل في الإسراء هو قوة القوى وهو الله ، فلا شكَّ أن الفعل لا يحتاج إلى زمن . حين تتأمل الدم يجري في الشرايين لا بدَّ أنْ يكون على درجة معينة من السيولة ليجري ، فإنْ قلَّتْ هذه السيولة تجلَّط وتجمد في مجاريه ، وقد تسد الشرايين فيموت الإنسان ، لكن إذا سال الدمُ خارجَ الجسم يتجلَّط ، أما في العروق فيظل على سيولته . تأمل حرارة الجسم تجد الحرارة الطبيعية 37 ْ سواء أكنتَ تعيش في بلاد الإسكيمو أو بجوار خط الاستواء حرارتك ثابتة عند 37 ْ ، ومع ذلك ففي جسم الإنسان أعضاء تختلف في حرارتها وهي في الجسم الواحد ، فالعين مثلاً حرارتها الطبيعية تسع درجات ، والكبد أربعون درجة ، ولو طغتْ حرارة الجسم على حرارة العين لفقد الإنسان بصره . ومن المعروف أن من خصائص الحرارة أو البرودة خاصية الاستطراق ، فكيف لا تُستطرق الحرارة والبرودة داخلَ الجسم الإنساني ؟ هذه كلها أمور يجب أن نقول فيها : سبحان الله صاحب هذه القدرة ومُبدعها . إذن : قُلْ دائماً سبحان الله في كل أمر مُستغرب لذلك علَّمنا القرآن هذه الكلمة في كل فعل لا يقدر عليه إلا الله . قال سبحانه : { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ } [ الإسراء : 1 ] وقال : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [ يس : 36 ] . وكلمة سبحان الله ينبغي أنْ تُقرن بحمده سبحانه ، فكأنك تحمد الله أنه مُنزَّه عن مماثلة الخَلْق أو مشابهة الخَلْق ، الحمد لله أنه لا مثيل له ولا نظيرَ له ولا نِدَّ له ، لأن هذا التنزيه تعود ثماره عليك أنت أيها المؤمن . وكلمة أستغفر الله العظيم من مقاليد السماوات والأرض ، فإنْ غفلتَ عني فمن مقاليدي أنْ أغفر لك إن استغفرت حتى لا أحرمك من التوبة والإنابة إليَّ ومغفرة الدنيا مَحْوٌ للذنب ، فهي مظهر من مظاهر رحمته تعالى بنا لأن العبد إن أغلقنا في وجهه باب التوبة استشرى في العصيان ، وتمادى في الاعتداء على الآخرين . إذن : فمشروعية التوبة رحمتْ البشر من شرور البشر . وكلمة " لا حول ولا قوة إلا بالله " هي أيضاً من مقاليد السماوات والأرض ، فإذا أقبلت على شيء : فإياك أن تظن أنك تقبل عليه بحولك وقوتك ، إنما لا حولَ ولا قوةَ لك إلا بالله ، لأنه سبحانه هو الذي يستطيع أن يسلب منك الحول ، وأن يسلب منك القوة . أما تفكرتَ في يدك … كيف تحركها كيفما تشاء في يُسْر وسلاسة ، وهي تنقاد لك وتطاوعك ، وأنت لا تعرف حتى العضلات والأعصاب التي تشارك في هذه الحركة ولا تدري بها ؟ إنها قدرة الله فيك ، فإذا أراد سبحانه أن يسلب منك هذه القوة منع السيال الكهربي القادم من المخ إلى هذا العضو فتحاول رفعه فلا تستطيع . إذن : اجعل هذه المسألة دائماً في بالك كلما أقبلتَ على عمل ، واعلم أنه لا يتم لك بقوتك إنما بقوة الله . وكلمة " هو الأول والآخر والظاهر والباطن " من مقاليد السماوات والأرض ، فهو سبحانه الأول بلا بداية ، والآخر بلا نهاية ، كما قلنا في دعاء رمضان : يا أول لا قبل آخر ، ويا آخر لا بعد أول ، لكن ذاك في ذاك فقِفْ أيها العقل عند منتهاك . ومعنى : الظاهر أي الظاهر في مُلْك الله مما يقع تحت إدراك البصر ، والباطن : أي الخفيّ في ملكوت الله الذي لا تراه ، فلله تعالى مُلْك ظاهر وملكوت غير ظاهر لا يُطْلع عليه إلا مَنْ شاء من عباده في الوقت الذي يريده سبحانه . وكلمة " بيده الخير " هي أيضاً من المقاليد ، وبعض العلماء قالوا : بيده الخير والشر ونظروا إلى قوله تعالى : { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ آل عمران : 26 ] . فلما جمعتْ الآية بين الشيء ونقيضه جرَّأتهم أنْ يقولوا بيده الخير والشر وهذا لا يجوز ، نعم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بيده الخير " تأدباً مع الله ولم ينسب الشر لله ، ونحن كذلك لا ننسب الشر إلى الله تعالى ، لذلك أنا منذ عام 1928 وأنا نعترض على قولنا في الدعاء : " واكفنا شر ما قضيت " وقلت : لابد أنْ يُعدِّل هذا الدعاء ، ثم هدانا الحق سبحانه لحلها فقلنا : إن شر ما قضيتَ ألاَّ ترضى بالقضاء . ولو تأملنا لفظ " بيده الخير " وفي الآية { بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ } [ آل عمران : 26 ] نجد أن الخير هنا مطلق بمعنى أن كل أفعال الحق سبحانه خير ، ولا يأتي الشر إلا من الخَلْق ، واقرأ : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] . فإنْ قلتَ : كيف نجمع بين مثل هذه الآية وبَيْن قوله تعالى : { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ } [ النساء : 78 ] نقول : سبق أن أوضحنا حلَّ هذه الفزورة وقلنا : نعم كُلٌّ من عند الله بمعنى أن الله تعالى هو خالق الفعل بمعنى خالق القوة والطاقة التي تفعل ، لكن أنت توجه هذه الطاقة إما إلى الخير وإما إلى الشر ، وعليه نقول : الخير من الله والشر منّا نحن . وقوله : " يحيي ويميت " أيضاً من المقاليد والموت والحياة هما أول ظاهرة في وجود الإنسان ، والخالق سبحانه خلق الحياة وخلق الموت ، ولما حدثنا عن ذلك قال تعالى : { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ } [ الملك : 2 ] . فذكر الموت أولاً حتى لا نستقبل الحياة بغرور البقاء ، بل نستقبلها وفي الأذهان أننا سننتهي إلى الموت فنعمل لهذه النهاية { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الروم : 50 ] يعني : يفعل ما تعجز أنت عن فعله ، وله سبحانه القدرة المطلقة فلا يعجزه شيء ، ولا يستعصي عليه شيء ، لذلك حين تطلب من ربك الرزق اطلب أنْ يرزقك من حيث لا تحتسب ، لأن لله تعالى أسباباً للرزق لا تعرفها أنت ، لذلك قال أهل المعرفة : الأسباب ستر ليد الله في العطاء . إذن : فقوله تعالى { لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ الزمر : 63 ] أي : بقدرته الخالقة وبقيوميته الدائمة { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـآيَاتِ ٱللَّهِ } [ الزمر : 63 ] سواء أكانت آيات كونية أو معجزات رسل ، أو آيات الكتاب حاملة الأحكام ، ومعنى كفروا بها أي : استعلوا على تنفيذها { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } [ الزمر : 63 ] يعني : صفقتهم خاسرة ، وتجارتهم بائرة ، لأنهم آثروا الشهوة العاجلة على النعيم الدائم الذي لا يفوتك ولا تفوته . ثم يقول الحق سبحانه : { قُلْ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونِّيۤ أَعْبُدُ … } .