Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 62-62)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
بعد أن ذكر الحق سبحانه وعده ووعيده وبيَّن عاقبة الكافرين وعاقبة المؤمنين عاد إلى قضية عقدية أخرى { ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] وكأنه يقول : ما الذي صرفهم عن أنْ يؤمنوا بالله الإله الحق ، وهو سبحانه خالق كل شيء ؟ بعضهم أخذ هذه الآية { ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] ونسب كل الأفعال إلى الله ، فالله في نظرهم خالق كل شيء ، خالق الإيمان وخالق الكفر ، وخالق الطاعة وخالق المعصية ، وبالتالي قالوا : فلم يعذب صاحبها ؟ نقول : هناك مَنْ يتعصب لقدرة الحق فيقول : كل شيء بقدرته تعالى ، وهناك مَنْ يتعصب للعدالة فيقول : إن الإنسان هو الذي يفعل وهو الذي يسعى لنفسه ، لذلك يُثاب على الطاعة ويُعاقب على المعصية ، وهذا خلاف ما كان ينبغي أنْ يُوجد بين علماء لأن الطاعة أو المعصية فعلٌ ، والفعل ما هو ؟ الفعل أداء جارحة من الجسم لمهمتها . فالعين ترى ، لكن الخالق سبحانه وضع للرؤية قانوناً ، وجعل لها حدوداً ، فالعين ترى ما أُحلَّ لها وتغضّ عما حُرِّم عليها ، كذلك الأذن واليد والرِّجْل واللسان … إلخ فإن وافقتَ في الفعل أمر الشرع فهو طاعة ، وإنْ خالفتَ أمر الشرع فهي معصية . فمثلاً الرجل الذي يرفع يده ويضرب غيره ، بالله هل هو الذي جعل جارحته تفعل أم أنه وجَّه الجارحة لما تصلح له ؟ إنه مجرد مُوجِّه للجارحة ، وإلا فهو لم يخلق فيها الفعل ، بدليل أنه لا يعرف العضلات التي تحركتْ فيه ، والأعصاب التي شاركتْ في هذه الضربة . إذن : نقول إن الفعل شيء ، وتوجيه الجارحة إلى الفعل شيء آخر ، فالفعل كله مخلوق لله ، فهو سبحانه الذي أقدر الأيدي أنْ تضرب ، وهو الذي أقدرها أنْ تمتد بالخير للآخرين ، الخالق سبحانه هو الذي أقدر لسان المؤمن أن يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وأقدر لسان الكافر أن ينطق بكلمة الكفر والعياذ بالله ، العين في استطاعتك أنْ تنظر بها إلى الحلال ، وفي استطاعتك أن تنظر بها إلى الحرام . إذن : أقدر الله كلَّ جارحة على المهمة التي تؤديها ، فإنْ كانت هذه المهمة موافقة للشرع فهي طاعة ، وإنْ كانت غير موافقة له فهي معصية ، وعليه نقول : إن الله تعالى هو خالق الفعل على الحقيقة . إذن : ما فعل العبد في المعصية حتى يُعاقب عليها ؟ وما فِعْله في الطاعة حتى يُثابَ عليها ؟ إن فعل العبد ودوره هنا هو توجيه الطاقة التي خلقها الله فيه ، هذه الطاقة التي جعلها الله صالحة لأنْ تفعل الشيء وضده ، فالقدرة على الفعل ليستْ من عندك ، إنما من عند الله ، وعليك أنت توجيه الطاقة الفاعلة . فمَنْ نظر إلى الفعل فالفعل كله لله { ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] ومَنْ نظر إلى التوجيه والاختيار فهو للعبد لذلك نقول : إن العاصي لم يعْصِ غصْباً عن الله ، والكافر لم يكفر بعيداً عن علم الله وإرادته ، لأن الحق سبحانه لو شاء لجعل الناس جميعاً أمة واحدة على الطاعة والإيمان ، لكن ترك لهم الاختيار وتوجيه الأفعال ليرى سبحانه - وهو أعلم بعباده - مَنْ يأتيه طواعية وباختياره . لذلك تأمل قوله سبحانه : { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] . فمن الخطأ أن نقول : إن الإنسان وحده هو المخيَّر ، إنما الكون كله مُخيَّر أمام الحق سبحانه ، لكن الفرق بين اختيار السماوات والأرض واختيار الإنسان أن السماوات والأرض لما خُيِّرت اختارت أن تتنازل عن مرادها لمراد خالقها سبحانه ، فهي اختارتْ بالفعل ، اختارت ألاَّ تكون مختارة ، وأن تكون مقهورة لمراد ربها ، أما الإنسان فقَبِلَ الأمانة واختار أن يكون مختاراً أمام خيارات متعددة . وسبق أن أوضحنا الفرق بين تحمُّل الأمانة وأداء الأمانة ، وأن العبد قد يضمن نفسه عند التحمل ، لكن لا يضمن نفسه عند الأداء ، فهي إذن أمر ثقيل ، لذلك وصف الحق سبحانه الإنسان في تحمله وتعرُّضه للأمانة بأنه ظلوم وجهول . إذن : إياك أن تدخل في متاهة فتفهم قوله تعالى : { ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] على غير وجهه ، فتقول : خالق كفر الكافر وعصيان العاصي ، فلماذا يعذبهم ؟ لأن الكافر هو الذي اختار الكفر ووجَّه طاقة الله لغير ما أراد الله ، والعاصي كذلك وجَّه طاقة الله إلى خلاف ما أمر به الله . وهناك مَنْ يقول في { ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] أن الكلية هنا إضافية ، كما في قوله تعالى في قصة بلقيس : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النمل : 23 ] يعني : لم تُؤْتَ بكل شيء فمن هنا للتبعيض ، والمعنى : أنهم يريدون أنْ يُخرِجوا فعل العباد من هذه المسألة ، وهذا لا يجوز . وقوله تعالى : { ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] خبر أخبر به الحق سبحانه يحتمل ويحتمل ، لكن أدلة صدْق هذا الخبر نشأتْ حتى من الكافرين بالله ، كما قال سبحانه : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [ الزخرف : 87 ] . وقال سبحانه وتعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [ لقمان : 25 ] . إذن : فالظرف والمكان والمكين من خَلْق الله ، والله قد أخبر هذا الخبر وبلَّغه رسول الله ، وفي القوم مَنْ جحدوا الله وأنكروه وادَّعوْا له شركاء ، ومع ذلك لم ينقض أحدٌ هذه الدعوى ولم يقُلْ أحد : إني خالق هذا الكون . والدعوى تَسْلم لصاحبها ما لم يقُمْ لها معارض ، ومعلوم أن الإنسان يدَّعي ما ليس له ، فلو كان له شيء من الخَلْق ما سكت عنه . ثم إن الإنسان طرأ على هذا الكون ، فوجده كما هو الآن بسمائه وأرضه ، فكيف يدَّعي أنه خالقه وهو أقدم منه ، بل وخَلْقه أعظم من خلقه { لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ غافر : 57 ] . فإذا ما جاءنا رسول نعلم صدقه يخبرنا بأن لهذا الكون خالقاً صفته كذا وكذا كان يجب علينا أنْ نرهف له الآذان لنسمع حَلَّ هذا اللغز ، ومثَّلْنَا لذلك برجل انقطع في صحراء مُهلكة حتى شارف على الموت وفجأة وجد مائدة عليها أطايب الطعام والشراب ، بالله ماذا يفعل قبل أن تمتدَّ يده إلى الطعام ؟ إنه لا بدَّ أنْ يسأل نفسه : من أين جاءت هذه المائدة ؟ إذن : { ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] خبر عليه دليل من الوجود ، ودليل من المعاندين للخالق سبحانه ، والحقيقة أنهم لا يعاندون الحقَّ من أجل مسألة الخلق ، إنما يعاندونه اعتراضاً على شرعه وأحكامه ، لأن هذه الأحكام ستقيد نفوسهم فلا تنطلق في شهواتها ، والإيمان له تبعات ووراءه حساب وعقاب وجزاء ، وإلا لماذا عبدوا الأصنام ؟ عبدوها لأنها آلهة لا منهجَ لها ولا تكاليف ، فهي تُرضي فطرة التديُّن عندهم بأن يكون له معبود يعبده ، وما أجملَ أن يكون هذا المعبود لا أمرَ له ولا نهيَ ولا تكاليف . إذن : قولهم : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] لفظ العبادة هنا لفظ خاطئ ، لأن معنى العبادة : طاعة العابد لأمر معبوده ونَهْيه ، وهذه الأصنام ليس لها أمر ولا نهي . وقوله سبحانه : { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [ الزمر : 62 ] الوكيل : هو الذي تُوكله أنت في العمل الذي لا تقدر عليه كما في قصة سيدنا موسى - عليه السلام - لما قال له قومه : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [ الشعراء : 61 ] وهم ساعتها على حقٍّ لأن البحر من أمامهم ، وفرعون وجنوده من خلفهم ، فكل الدلائل تؤيد قولهم { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [ الشعراء : 61 ] . لكن لموسى عليه السلام نظرة أخرى وشأن آخر ، إنه موصولٌ بربه معتمد عليه ومتوكل عليه ، يعلم علم اليقين أن الله وكيله فيما يعجز هو عنه لذلك ردَّ عليهم وقال كلا لم يقلها من عندياته ، إنما قالها برصيد من إيمانه بربه وثقته بنصره { كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] . ويقول تعالى في التوكل عليه : { أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوۤءَ … } [ النمل : 62 ] . وقال سبحانه : { وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ … } [ الإسراء : 67 ] فالله وكيل لعباده جميعاً حتى الكافر منهم لذلك نرى مَنْ كفر بالله حين لا تسعفه أسبابه أو تضيق عليه أموره ، يقول : يا رب لأنه لا يخدع نفسه ولا يغش نفسه . فكما صدق الحق سبحانه في الإخبار بأنه { خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] صدق في الإخبار بأنه { عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [ الزمر : 62 ] ألا ترى الزرع مثلاً يزرعه الفلاح ويرعاه ، فتراه نَضِراً جميلاً لكن قبل الحصاد تجتاحه جائحة أو تحل به آفة فتهلكه ، بالله من عند مَنْ هذه الآفة ؟ من عند خصومك وأعدائك ؟ ! لا … بل هي من عند الله . وما دام أن الله تعالى هو خالق كل شيء وهو وكيل على كل شيء ، فلا بدَّ أن يكون له مُلْك السماوات والأرض لذلك قال بعدها : { لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ … } .