Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 71-71)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
نلحظ هنا أن الفعل وَسِيقَ جاء مبنياً لما لم يُسمَّ فاعله ، وفي موضع آخر قال تعالى : { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ ق : 21 ] فمَن هو السائق ؟ قالوا : هم الملائكة يسوقون أهل النار إلى جهنم والعياذ بالله ، والسائق هو الذي يحثّ المسوق على الإسراع ، كراكب الدابة الذي ينهرها ويحثُّها لتسرع به ، كذلك تفعل الملائكة بالمجرمين وتحثهم إلى جهنم ليسرعوا إليها . وهذا يدل على أن الملائكة مغتاظون منهم ، كارهون لهم ، متضايقون من أعمالهم في الدنيا ، لذلك يزجُّون بهم إلى جزائهم العادل في جهنم ، بلا هوادة وبلا رحمة ، أرأيتم رجال الشرطة حينما يمسكون بالمجرم ماذا يفعلون به ؟ إنهم يضربونه ويُعذبونه ويهينونه لأنه عضو فاسد في المجتمع يريد الجميع التخلص منه ، ومعلوم أن الملائكة عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . والقرآن يصور هذا الموقف في آية أخرى ، فيقول سبحانه : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } [ الطور : 13 ] يعني : يزجرونهم إليها ويدفعونهم فيها رغماً عنهم . ومعنى زُمَراً يعني : جماعات ، فكل أصحاب مخالفة لمنهج الله معاً في جماعة ، فالتاركون للصلاة جماعة ، والتاركون للزكاة جماعة ، والآكلون للربا جماعة وهكذا الظلمة والمرتشون والسارقون والزناة والمختلسون يجمع الله كل واحد منهم مع صاحبه ، فيُحشرون معاً يتقدمهم كبيرهم . والفتوة فيهم كما قال سبحانه : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ … } [ الإسراء : 71 ] وقال سبحانه : { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ عِتِيّاً } [ مريم : 69 ] . وقال في حق فرعون : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ } [ هود : 98 ] . وكَوْن كبراء الضلال وقادة الكفر يتقدمون أتباعهم يدل ذلك على قطع أمل الآخرين في النجاة ، فلو دخل التابع فلم يجد متبوعه لتعلق قلبه به ، وظن أنه سيأتي ويُخلصه ، لكن الحال أنه سيدخل فيجد أستاذه وقدوته في الضلال قد سبقه إلى جهنم . حتى إذا ما وصلوا إلى أبواب جهنم فتح لهم { حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا … } [ الزمر : 71 ] لأن باب الغضب مش مفندق بل مغلق يُفتح للضرورة ، على خلاف باب الرحمة فهو مفتوح دائماً ، وهذا من رحمة الله ، لأن رحمة الله سبقتْ غضبه . وهذه النهاية لتي انتهى إليها أهل النار كُتبتْ عليهم ، وعلمها الحق سبحانه من بداية الحياة ، واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى : { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ هود : 105 - 108 ] . أولاً : لا بدَّ لفهم هذه الآية أن تعرف أولاً معنى الخلود : الخلود هو المكث الطويل ، وهذا المكث سُمِّي خلوداً لأن له بداية وليس له نهاية ، والكلام هنا عن الذين سُعِدوا وهم أهل الجنة ، والذين شقوا وهم أهل النار ، لكن الحق سبحانه استثنى من هؤلاء ومن هؤلاء ، والذين استثناهم الله ستنقص مدة خلودهم ، كيف ؟ الكافر بعد أنْ حُوسب وسيق إلى جهنم تُفتح له ويظل خالداً فيها خلوداً كاملاً من البداية إلى ما لا نهاية ، كذلك المؤمن الذي تداركته رحمة ربه بعد أنْ يُحاسب يُساق إلى الجنة فيظل فيها خلوداً كاملاً من البداية إلى ما لا نهاية . أما الاستثناء فللمؤمن العاصي الذي لم يَتُبْ عن معاصيه أو تاب ولم تُقبل توبته ، هذا لا بدَّ أن يأخذ جزاء هذه المعاصي ، وأنْ تناله لفحة من لفحات النار والعياذ بالله ، هذا في البداية ، فيدخل النار ما يشاء الله له ثم يُخرجه إلى الجنة وبذلك تكون فترة خلوده في الجنة نقصتْ عن إخوانه المؤمنين ، والنقص هنا من البداية ، كذلك نقص خلود في النار عن أهل النار الخالدين فيها . وقوله تعالى : { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ … } [ الزمر : 71 ] أي : خزنة النار قالوا لهم على سبيل التقريع والتوبيخ { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَـآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا … } [ الزمر : 71 ] هذا الاستفهام ألزمهم الحجة وأفحمهم ، فربهم عز وجل لم يأخذهم على غِرَّة ، إنما أرسل لهم رسلاً ، وهؤلاء الرسل منكُمْ من جنسكم ومن أوسطكم والأقرب إليكم لتسهل القدوة به . ومع هؤلاء الرسل حجج وبراهين ووَعْد ووعيد ، لذلك لم يستطيعوا الإنكار { قَالُواْ بَلَىٰ … } [ الزمر : 71 ] يعني : حدث هذا ، فأقرّوا على أنفسهم بإسقاط الحجة ، وأن الله بعث لهم الرسل الذين أنذروهم هذا اليوم . إذن : الإنذارات التي تحدث للناس في حياتهم من تمام رحمة الله بالخلق ، والإنذارات التي سبقت في الحياة بما سيكون بعدها من تمام رحمة الله بالخلق ، أرأيتَ حين تُبصِّر ولدك بعاقبة الإهمال وتُخوِّفه من الرسوب آخر العام ، فإنك تعينه على المذاكرة والاجتهاد حتى لا يلاقي العاقبة ، وحتى لا يفاجأ بشيء غفل عنه . لذلك وقف المستشرقون عند سورة الرحمن وقالوا : قوله تعالى { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ * وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا ٱلُّلؤْلُؤُ وَٱلمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 14 - 25 ] قالوا : نعم هذه نِعَم يناسبها { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 25 ] لكن أيّ نعمة في قوله { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 35 - 36 ] . نعم الإنذار بالشر قبل أن يقع والتحذير منه قبل أوانه نعمة ، بل من أعظم نِعم الله على الإنسان ليحتاط للأمر ، فالتهديد والوعيد والتبصير والتخويف إنما لنحذر المخوف منه فلا نقع فيه . وقوله : { وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [ الزمر : 71 ] يعني : وجبتْ لهم رغم الإنذار والتبصير ، والكلمة التي حقَّتْ هي قوله تعالى : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ السجدة : 13 ] فماذا تنتظرون بعد ذلك ؟ والعجيب أننا باختياراتنا الخائبة نساعد القدر ويمهد القدر لقدر . والكلمة قوْلٌ مفرد لا يؤدي إلا معنىً في ذاته ، إنما لا يؤدي معنى إسنادياً ، فكلمة السماء مثلاً لا تؤدي معنىً وحدها يحسنُ السكوت عليه ، لكن حين تقول : السماء صافية تعطي معنى مفهوماً يحْسن السكوت عليه ، قالوا : لكن قد تفيد الكلمة الواحدة ، فلو قلت : مَنْ عندك ؟ تقول : زيد . فأفادت : زيد عندي . ولولا تقدير كلمة عندي ما أفادتْ فالكلمة - إذن - لا تؤدي معنىً يحسن السكوت عليه إلا بضميمة غيرها . وقد بيَّن علماء النحو ذلك حين قسَّموا الكلمة إلى اسم وفعل وحرف وكل منها تُسمَّى كلمة ، والفرق بينها أن الاسم يعطي في ذاته معنىً مستقلاً بالفهم ، والفعل يعطي معنىً في ذاته ، لكنه مرتبط بزمن أو الزمن جزء منه ، تقول : أكل أي في الماضي . يأكل في المضارع . وكُلْ في المستقبل ، أما الحرف فهو لا يعطي معنى مستقلاً بالفهم ، إنما لا بدَّ من ضميمة تبين معناه . وتطلق الكلمة ويُراد بها الكلام تقول : ألقيت كلمة في الحفل والمراد خطبة ، وقد استخدم القرآنُ الكلمة بهذا المعنى في قوله تعالى : { كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا … } [ المؤمنون : 100 ] والمراد بالكلمة قوله : { رَبِّ ٱرْجِعُونِ * لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ … } [ المؤمنون : 99 - 100 ] . وكذلك هنا : { حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [ الزمر : 71 ] الكلمة هي { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ السجدة : 13 ] .