Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 39, Ayat: 7-7)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

بعد أنْ حَنَّنَ الحق سبحانه الخَلْق بذكر الربوبية التي خلقت وربتْ ، وأمرتْ ، وبذكر الألوهية التي ضمنتْ صلاح البلاد والعباد ، بيَّن سبحانه أنه الغني عن خَلْقه ، فقال تعالى : { إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ } [ الزمر : 7 ] يعني : غني عن إيمانكم ولا تنفعه طاعاتكم . فهو سبحانه جعل التكاليف لصلاح حالكم لا لمنفعة تعود عليه سبحانه ، فأنتم خَلْقه وصَنْعته ، والصانع يريد أنْ يرى صنعته على أحسن حال ، يرى العبد المؤمن في المجتمع المؤمن الذي تتساند حركته لا تتعاند ، وتتفق توجهاته لا تتضارب ، الخالق سبحانه لا يحب أنْ يرى خَلْقه يتصارعون ، واحد يبني والآخر يهدم . إذن : هذا هو الهدف من الخَلْق ومن المنهج لأن الله تعالى بصفات الكمال فيه خلق الخَلْق ، ولم يُزدْه الخَلْق صفة واحدة لم تكُن له من قبل ، إذن : لا حاجة له إليكم . إنما أنتم صنعته ويريد لكم الخير لذلك لما عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبيْنَ أنْ يحملْنها وأشفقْنَ منها ، وحملها الإنسان ، إنه كان ظلوماً جَهُولاً . وإباء السماوات والأرض والجبال ليس امتناعاً على الله ، ولا اعتراضاً إنما تسليم لأن الله خيَّرهم فاختاروا أنْ يكونوا مُسيَّرين . لكن الإنسان قَبِلها فحكم الله عليه بأنه كان ظلوماً وجهولاً ، لكن كيف يُوصَف مَنْ قَبِلَ كلام الله بأنه ظلوم وجهول ؟ قالوا : لأنه ظلم نفسه وجهل ما يكون منه ، لأنه مخلوق مختار له أنْ يؤمن ، وله أنْ يكفر ، وله أنْ يطيعَ وأنْ يعصي ، ولما عُرِضَتْ عليه الأمانة قبلها لأن الله هو الذي خيَّره . ووثق بنفسه وقدرته على الأداء ، لكنه جهل ما يطرأ عليه وما يجدّ من أحداث وأهواء ، فظلم نفسه عند التحمُّل وجهل بوقت الأداء ، وأسرع في وقت الرضا والقبول ، وكان ينبغي عليه أنْ يحسب حسابَ الإنجاز والأداء . وفَرْق بين التحمُّل والأداء في مسألة الأمانة ، لأن الأمانة موكولة إلى ذمة المؤتمن ، ولو كتب بها إيصالاً أو كان عليها شهود ما سُمِّيتْ أمانة ، والإنسان عادة يُقبل على تحمُّل الأمانة وفي نيته أداؤها ، كما لو أنك أعطيتَ صديقاً لك مبلغاً من المال يحفظه لك ، لحين عودتك من السفر مثلاً ، فتراه يرحب ويقبل لكن تعِنّ له ظروف ، وتمتد يده إلى هذا المال ، وربما جئت فلم تجده ، وعندها إما ينكر أو يماطل . إذن : ظلم نفسه ، وجهل وقت الأداء ، وجهل أنه ابنُ أغيار ، ونفسه متغيرة ، أما السماوات والأرض والجبال لما خُيِّرتْ اختارت أنْ تكونَ مُسيَّرة ، لا دخْلَ لها بهذه المسألة فاخذت الأمر من قصيره . ومعنى قوله تعالى : { إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ } [ الزمر : 7 ] واضح في الحديث القدسي : " يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتْقَى قلب رجل واحد منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً . ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً . ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد ، وسألني كل واحد مسألته فأعطيتها له ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخِيْطَ إذا أُدخل البحر ، ذلك أنِّي جَوَاد ماجد واجد ، عطائي كلام ، وعذابي كلام ، إنما أمري لشيء إذا أردته أنْ أقول له كُنْ فيكون " . وقوله سبحانه : { وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ } [ الزمر : 7 ] دليل على محبته سبحانه لخَلْقه ، فكأنه تعالى يقول : أنا غني عنكم ، لكن لا أحب أنْ تكونوا كافرين لأنني أريد أن أباهي بكم ملائكتي الذين قالوا عنكم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [ البقرة : 30 ] . وورد أن الحق سبحانه يقول لملائكته : أعلمتم أن عبيدي أطاعوني ؟ فيقولون : أطاعوك لنعمتك عليهم ، فقال : ولو سلبتُ نعمتي لأطاعوني . لذلك يُمرضهم ويطيعونه ، ويُفقرهم ويطيعونه ، ويهزمهم ويطيعونه ، وينصرهم ويطيعونه . إذن : عبادي يطيعونني لذاتي لأني أستحق أنْ أُحبّ ، وأنْ أُطاع بصرف النظر عن نعمي عليهم . لذلك يقول الحق سبحانه عتاباً للخَلْق الذين يعبدونه خوفاً من ناره ، أو طمعاً في جنته : أو لو لم أخلق جنة وناراً أما كنتُ أهلاً لأنْ أُعبد ؟ وضربنا مثلاً بالرجل الذي يعمل معه خادم يخدمه مقابل مائة جنيه في الشهر ، لكن ضاقتْ حالُ هذا الرجل وأصبحتْ لا تتسع لهذا المبلغ ، فقال لخادمه : والله أنا لم أَعُدْ قادراً على دفع هذا المبلغ ، ولا أقدر إلا على خمسين جنيهاً ، فانظر أنت في أمرك أو ابحث لك عن فرصة عمل أخرى ، فقال الخادم : أنا موافق على الخمسين ، لكن اشتدتْ الحالُ بالرجل مرة أخرى ، حتى أنه لم يَعُدْ قادراً على دَفْع أكثر من عشرين جنيهاً ، فرضى بها خادمه ثم عشرة فرضى بها ، إلى أنْ قال له : والله حالك معي جعلك تستحق أنْ تُخدم ، ولو بلا أجر ، هكذا أَمْر الله معنا . فالحق سبحانه لا يرضى لعباده الكفر لأنهم خَلْقه وصَنْعته ، وهو سبحانه حريص على ما يُصلحهم ، حريص على أنْ يكونوا مؤمنين لتستقيم أمورهم ، وتمتد نِعَمه عليهم من الدنيا إلى الآخرة ، فكما أنعم عليهم في الدنيا بِنعم موقوتة يريد أنْ يُنعم عليهم في الآخرة ونِعَم الآخرة باقية خالدة . لذلك ورد في الحديث القدسي : " قالت الأرض : يا رب ائذن لي أنْ أخسف بابن آدم ، فقد طِعَم خيرَكَ ، ومنع شكرك ، وقالت السماءُ : يا ربّ ائذن لي أنْ أسقط كِسَفاً على ابن آدم ، فقد طَعِم خيرك ومنع شكرك إلى أنْ قال الحق سبحانه لهذه المخلوقات التي أظهرت غيرتها على ربها عز وجل : دَعُوني وخَلْقي ، لو خلقتموهم لرحمتموهم ، إنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم " . { وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ } [ الزمر : 7 ] فإن تشكروا يرضى لكم الشكر ، ويعجبه منكم ، ويحبه لكم ، ويجزيكم عليه خيراً ، وإنما رضي لهم سبحانه الشكر لأنه سبب سعادتهم في الدنيا والآخرة ، كما قال سبحانه : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ … } [ إبراهيم : 7 ] ، فالشكر على النعمة يعطينا مزيداً من النعمة ، فنشكر عليها فتعطينا المزيد ، وهكذا يظل الشكر دائماً والنعمة دائمة . وقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [ الزمر : 7 ] أي : لا تحمل نفسٌ مذنبةٌ ذنوبَ نفسٍ أخرى ، يعني : سأكون عادلاً بألاَّ أحمل أحداً ذنب غيره ، فكلّ مُعلّق من عرقوبه . وهذه الآية وقف عندها بعض المستشرقين يقول : إنها تتعارض وقوله تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] نعم ظاهر الآيتين التعارض ، لكن أنت لم تفهم مَناط الوِزر . فالقاعدة العامة أنه لا يحمل أحدٌ ذنبَ أحد ، أما هؤلاء فيحملون أوزارهم وأوزار الآخرين ، لأن الآية هنا تتحدث عن رؤوس الضلال وقادة الكفر الذين ضَلوا في أنفسهم ، وأضلّوا غيرهم ، فالوزر الأول وزْر ضلالهم في أنفسهم وأوزار الآخرين الذين أضلوهم وأغووهم وزينوا لهم الضلال . إذن : فالمعنى مختلف . { ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُـمْ } [ الزمر : 7 ] يعني : إنْ كنتُ قد بدأتُ خَلْقكم بالإكرام لكم ، وقابلتم هذا الإكرام بالجحود ، ولم تؤدوا حَقّه بالإيمان بي والطاعة لمنهجي ، فاعلموا أنكم سترجعون إليَّ ولن تفلتوا مني { فَيُنَبِّئُكُـمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الزمر : 7 ] أي : يخبركم بما كان منكم . { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } [ الزمر : 7 ] إذن : تذكروا دائماً هذه المسألة ، واحسبوا حسابها قبل فوات الأوان . وهذه الآية تحذير من الحق سبحانه ، وبيان للعقوبة من شأنه أنْ يردع الناسَ عن الجرائم ، فلا تقع ولا تحدث العقوبة أصلاً ، وهذا من رحمة الخالق بالخَلْق ، فهو سبحانه يريد لهم الخير ، ويريد لهم أنْ ينعموا بنعمه في الآخرة ، كما نَعِموا بنعمه في الدنيا .