Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 125-125)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وساعة نسمع استفهاماً مثل قوله الحق : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله } فحسن الاستنباط يقتضي أن نفهم أن الذي أسلم وجهه لله هو الأحسن ديناً ، وفي حديثنا اليومي نقول : ومن أكرم من زيد ؟ . معنى ذلك أن القائل لا يريد أن يصرح بأن زيداً هو أكرم الناس لكنه يترك ذلك للاستنباط الحسن . ولا يقال مثل هذا على صورة الاستفهام إلا إذا كان المخبر عنه محدداً ومعيناً ، والقائل مطمئن إلى أنّ من يسمع سؤاله لن يجد جواباً إلا الأمر المحدد المعين لمسئول عنه . وكأن الناس ساعة تدير رأسها بحثاً عن جوابٍ للسؤال لن تجد إلا ما حدده السائل . { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله } والإجابة على مثل هذا التساؤل : لا أحد أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله . وهكذا نرى أن الله يلقى خبراً مؤكداً في صيغة تساؤل مع أنه لو تكلم بالخبر لكان هو الصدق كله : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً } [ لنساء : 122 ] وسبحانه يلقي إلينا بالسؤال ليترك لنا حرية الجواب في الكلام ، كأنه سبحانه يقول : - أنا أطرح السؤال عليك أيها الإنسان وأترك لك الإجابة في إطار ذمتك وحكمك فقل لي من أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله ؟ وتبحث أنت عن الجواب فلا تجد أحسن ممن أسلم وجهه لله فتقول : - لا أحد أحسن ممن أسلم وجهه لله . وبذلك تكون الإجابة من المخاطب إقراراً ، والإقرار - كما نعلم - سيد الأدلة . { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله } ونعلم أن الكلمة إذا أطلقت في عدة مواضع فهي لا تأخذ معنى واحداً . بل يتطلب كل موضع معنى يفرضه سياق الكلام ، فإذا قال الله تعالى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [ آل عمران : 106 ] فذلك لأن الوجه هو العضو المواجه الذي توجد به تميزات تبيّن وتوضح ملامح الأشخاص . لأننا لن نتعرف على واحد من كتفه أو من رجله ، بل تعرف الأشخاص من سمات الوجوه . وعندما نسمع قول الحق : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] فإننا نتساءل : ما المراد بالوجه هنا ؟ إن أردنا الوجه الذي يشبه وجوهنا فهذا وقوع في المحظور ، لأن كل شيء متعلق بالله سبحانه وتعالى نأخذه على ضوء " ليس كمثله شيء " نقول ذلك حتى لا يقولن قائل : مادام وجه الله هو الذي لن يهلك يوم القيامة فهل تهلك يده أو غير ذلك ؟ . لا إن الحق حين قال : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } فالمقصود بذلك ذاته فهو سبحانه وتعالى منزه عن التشبيه وسبحانه القائل : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ } [ البقرة : 115 ] إذن فوجه الله - هنا - هو الجهة التي يرتضيها ، والإنسان يتجه بوجهه إلى الكعبة في أثناء الصلاة . وإياك أن تظن أنك حينما تولي وجهك صوب الكعبة أنها وجه الله لأن الله موجود في كل الوجود ، فأي متجه للإنسان سيجد فيه الله ، بدليل أننا نصلي حول الكعبة ، وتكون شرق واحد وغرب آخر ، وشمال ثالث ، وجنوب رابع ، فكل الجهات موجودة في أثناء الطواف حول الكعبة وفي أثناء الصلاة ، والكعبة موجودة هكذا لنطوف حولها ، ولتكون متَّجَهنا إلى الله في جميع الاتجاهات . { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ } [ البقرة : 115 ] أي الجهة التي ارتضاها سبحانه وتعالى . ونحن هنا في هذه الآية نرى قول الله : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله } . وأسلم وجهه أي أسلم اتجاهه لأن الإنسان حين يكون ذاهباً إلى قصد أو هدف أو غرض ، فيكون وجهه هو المتجه لأن الإنسان لا يسير بظهره . والوجه هنا - إذن - هو الاتجاه . ولماذا جاء الحق بالوجه فقط ، برغم أن المؤمن يسلم مع الوجه كل الجوارح ؟ لأن الوجه أشرف الأعضاء ، ولذلك جعل سبحانه السجود أشرف موقع للعبد لأن القامة العالية والوجه الذي يحرص الإنسان على نظافته يسجد لله . إذن أسلم وجهه لله ، أي أسلم وجهته واتجاهه للهن ومعنى " أسلم " من الإسلام ، فـ " أسلم " تعني : سلّم زمام أموره لواحد . حين يسلم الإنسان زمامه إلى مساو له فهذه شهادة لهذا المساوي أنه يعرف في هذا الأمر أفضل منه . ولا يسلم لمساو إلا إن شهد له قبل أن يلقي إليه بزمامه أنّه صاحب حكمة وعلم ودراية عنه . فإن لم يلمس الإنسان ذلك فلن يسلم له . وما أجدر الإنسان أن يسلم نفسه لمن خلقه ، أليس هذا هو أفضل الأمور ؟ . إن الإنسان قد يسلم زمامه لإنسان آخر لأنه يظن فيه الحكمة ، ولكن أيضمن أن يبقى هذا الإنسان حكيماً ؟ إنّه كإنسان هو ابن أغيار ، وقد يتغير قلبه أو أن المسألة المسلم له لها تكون مستعصية عليه ، لكن عندما أسلم زمامي لمن خلقني فهذا منتهى الحكمة . ولذلك قلنا : إن الإسلام هو أن تسلم زمامك لمن آمنت به إلهاً قوياً وقادراً وحكيماً وعليماً وله القيومية في كل زمان ومكان . وحين يسلم الإنسان وجهه لله فلن يصنع عملاً إلا كانت وجهته إلى الله . { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ } [ النساء : 125 ] ولماذا جاءت كلمة " محسن " هنا ؟ وقد تكلم صلى الله عليه وسلم عن الإحسان ، ونعرف أننا آمنا بالله غيباً ، لكن عندما ندخل بالإيمان إلى مقام الإحسان ، فإننا نعبد الله كأننا نراه فإن لم نكن نراه فهو يرانا . " والحوار الذي دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد صحابته وكان اسمه الحارث فقال له : " كيف أصبحت يا حارث ؟ " فقال : أصبحت مؤمنا حقا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك ؟ " قال : عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت لذلك ليلي وأظمأت نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها يتصايحون فيها فقال : " يا حارث عرفت فالتزم ثلاثا " " . ويعرف الإنسان من أهل الصلاح أنّه في لقاء دائم مع الله ، لذلك يضع برنامجاً لنفسه موجزة أنه يعلم أنه لا يخلو من نظر الله إليه وهو معكم أينما كنتم إنه يستحضر أنه لا يغيب عن الله طرفة عين فيستحيي أن يعصيه . ويوضح الحديث ما رواه سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عندما سأل جبريل - عليه السلام - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال له : فأخبرني عن الإحسان ؟ قال : " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " . وعندما تتيقن أن الله ينظر إليك فكيف تعصيه ؟ أنت لا تجرؤ أن تفعل ذلك مع عبدٍ مساوٍ لك … فكيف تفعله مع الله ؟ ! ! وتتجلى العظمة في قوله الحق : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } لماذا إذن " ملة إبراهيم " ؟ لأن القرآن يقول عن إبراهيم : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً } [ النحل : 120 ] ومعنى كونه " أُمَّةً " : أنّه الجامع لكل خصال الخير التي لا تكاد تجتمع في فرد إلا إن وزعنا الخصال في أمة بأكملها فهذا شجاع وذلك حليم والثالث عالم والرابع قوي ، وهذه الصفات الخيِّرة كلها لا تجتمع في فرد واحد إلا إذا جمعناها من أمة . وأراد الحق سبحانه لإبراهيم عليه السلام أن يكون جامعاً لخير كثير فوصفه بقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [ النحل : 120 ] ويقول هنا عن ملة إبراهيم : { واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } . والملة هي الديانة و " حنيفاً " أي " مائلا عن الباطل إلى الحق " . والمعنى اللغوي لكلمة " حنيف " أنّه هو " المائل " . وكان إبراهيم حنيفاً عن الباطل . ومتى تُرسل الرسل إلى الأقوام نعرف أن الرسل تأتي إذا طمّ الفساد وعمّ ، وحين تكون المجتمعات قادرة على إصلاح الفساد الذي فيها … فالحق سبحانه يمهل الناس وينظرهم ، لكن إذا ما بلغ الفساد أَوْجَهُ ، فالحق يرسل رسولاً . وحين يأتي الرسول إلى قوم ينتشر فيهم الفساد ، فالرسول يميل عن الفساد ، بهذا يكون الميل عن الاعوجاج اعتدالا . { واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } . ويأتي الحق من بعد ذلك بالغاية الواضحة { وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } فما هي حيثيات الخُلَّة ؟ لأنه يتبع أفضل دين ، ويسلم لله وجهه ، وكان محسناً ، واتبع الملة ، وكان حنيفاً ، هذه هي حيثيات الخُلَّة . وكلها كانت صفات سيدنا إبراهيم عليه السلام . لقد حدثونا أن جبريل عليه السلام قد جاء لسيدنا إبراهيم عندما ألقاه أهله في النار ، فقال جبريل يا إبراهيم : ألك حاجة ؟ . فقال إبراهيم : " أما إليك فلا " ، فقال جبريل فاسأل ربك فقال : " حسبي من سؤالي علمه بحالي " فقال الله : " يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم " أي أنه لا يطلب من جبريل بذاته شيئاً . وتلك قمة الإسلام لله . كما أننا نعرف مدى أنس الناس بأبنائها ونعلم إن إسماعيل قد جاءه ولداً في آخر حياته ، وأوضح له الحق أنه مبتليه ، وكان الابتلاء غاية في الصعوبة فالابن لا يموت ولا يقتله أحد ولكن يقوم الأب بذبحه ، فكم درجة من الابتلاء مر بها إبراهيم عليه السلام ؟ ! وسار إبراهيم لتنفيذ أمر ربه ، ولذلك نقرأ على لسان إبراهيم عليه السلام : { يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ } [ الصافات : 102 ] ويجعل الحق ذلك برؤيا في المنام لا بالوحي المباشر . ولننظر إلى ما قاله إسماعيل عليه السلام . لم يقل : " افعل ما بدا لك يا أبي " ولكنه قال : { يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ } [ الصافات : 102 ] أي أن إسماعيل وإبراهيم أسلما معاً لأمر الله . فماذا فعل الله ؟ : { وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [ الصافات : 104 - 112 ] ولا يكتفي الحق بإعطاء إبراهيم إسماعيل ابناً ، وله فداء ، ولكن رزق الله إبراهيم بابن آخر هو إسحاق . { وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } . وجلس العلماء ليبحثوا معنى كلمة " خليلاً " ، ويبحثوا ما فيها من صفات ، وكل الأساليب التي وردت فيها . والكلمة مأخوذة من " الخاء ولام ولام " . و " الخَل " - بفتح الخاء - هو الطريق في الرمل ، وهو ما نسميه في عرفنا " مدقاً " ، وعادة يكون ضيقاً . وحينما يسير فيه اثنان فهما يتكاتفان إن كان بينهما ودّ عالٍ ، وإن لم يكن بينهما ودّ فواحد يمشي خلف الآخر . ولذلك سموا الاثنين الذين يسيران متكاتفين " خليل " فكلاهما متخلل في الآخر أي متداخل فيه . والخليل أيضاً هو من يسد خلل صاحبه . والخليل هو الذي يتحد ويتوافق مع صديقه في الخلال والصفات والأخلاق . أو هو من يتخلل إليه الإنسان في مساتره ، ويتخلل هو أيضاً في مساتر الإنسان . والإنسان قد يستقبل واحداً من أصحابه في أي مكان سواء في الصالون أو في غرفة المكتب أو في غرفة النوم . لكن هناك من لا يستقبله إلا في الصالون أو في غرفة المكتب . { وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } أي اصطفاه الحق اصطفاءً خاصاً ، والحب قد يُشارَك فيه ، فهو سبحانه يحب واحداً وآخر وثالثاً ورابعاً وكل المؤمنين ، فهو القائل : { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّابِينَ } [ البقرة : 222 ] وسبحانه القائل : { فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 76 ] وهو يعلمنا : { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 146 ] ويقول لنا : { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 148 ] ويقول أيضاً : { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } [ الممتحنة : 8 ] لكنه اصطفى إبراهيم خليلاً ، أي لا مشاركة لأحد في مكانته ، أما الحب فيعم ، ولكن الخلَّة لا مشاركة فيها . ولذلك نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى قومه قائلاً : " أما بعد أيها الناس فلو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلا وإن صاحبكم خليل الله تعالى يعني نفسه " . وإسماعيل صبري الشاعر المصري الذي كان أسبق من أحمد شوقي وكان شيخا للقضاة . التقط هذا المعنى من القرآن ومن الألفاظ التي دارت عليه في القرآن ، ويقول : @ ولما التقينا قرب الشوق جهده خليلين زادا لوعة وعتابا كأن خليلاً في خلال خليله تسرب أثناء العناق وغابا @@ وشاعر آخر يقول : @ فضمنا ضمة نبقى بها واحداً @@ ولكن إسماعيل صبري قال ما يفوق هذا المعنى : لقد تخللنا كأن بعضنا قد غاب في البعض الآخر . ويقول الحق بعد ذلك : { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ … } .