Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 138-138)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

سمة التردد والتذبذب بين الإيمان والكفر لا تأتي من أصيل في الإيمان ، بل تأتي من متلون في الإيمان ، تبدو له أسباب فيؤمن ، وبعد هذا تبدو له أغيار فيكفر . وذلك شأن المنافقين المذبذبين بين هؤلاء وهؤلاء . فيقول الحق : { بَشِّرِ ٱلْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } . ونحن نعلم أن المنافق هو الذي جمع بين أمرين : إعلان إسلام ، وإبطان كفر . والنفاق مأخوذ من نافقاء اليربوع ، وهي إحدى جحوره التي يستتر ويختفي فيها ، واليربوع حيوان صحراوي يخادع من يريد به شراً فيفتح لنفسه بابين يدخل أمام الرجل من باب ثم يخرج من باب آخر . فإن انتظره الرجل على باب فاليربوع يخرج من الآخر . { بَشِّرِ ٱلْمُنَافِقِينَ } والبشارة هي الإخبار بشيء يسر سيأتي زمنه بعد . وهل المنافقون يبشرون ؟ لا . إن البشارة تكون بخير لذلك نتوقع أن ينذر المنافقون ولا يبشرون ، ولكن لله في أساليبه البلاغية تعبيرات لتصعيد العذاب . فلو قال : أنذرهم بعذاب أليم ، لكان الكلام محتملاً ، فهم - كمنافقين - مستعدون لسماع الشر . ولكن الحق يقول : { بَشِّرِ ٱلْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } وذلك هو التهكم والاستهزاء والسخرية ، وهي من معينات البليغ على أداء مهمته البلاغية . ونسمع المفارقات أحياناً لتعطينا صورة أصدق من الحقيقة . فإذا جئت إلى بخيل مثلاً ، وقلت له : مرحباً بك يا حاتم . ماذا يكون موقف من يحضر هذا اللقاء ؟ أنت تنقله من واقع البخيل إلى تصور حاتم الطائي أصل الكرم . وبذلك نقلت البخيل نقلتين : نقلة من وضعه كبخيل ثم السخرية منه لأن قولك لبخيل ما : يا حاتم هو تقريع وتهكم وسخرية واستهزاء ، لأنك نقلته من وصف خسيس وحقير إلى وصف مقابل هو سَام ورفيعٍ وعظيم تحقيرا له واستهزاء به ، ومن المقارنة يبدو الفارق الكبير . وإذا ما جئت مثلاً لرجل طويل جداً ، وقلت : مرحبا بك يا قزم . هذه هي المفارقة ، كما تقول لقصير : مرحبا يا مارد . أو إذا جئت لطويل لتصافحه ، فيجلس على الأرض ليُسلم عليك … هذه أيضاً مفارقة . وإن جئت لرجل قصير لتصافحه فتجلس على الأرض لتسلم عليه فهذه هي السخرية والتهكم . وهذه المفارقات إنما تأتي للأداء البلاغي للمعنى الذي يريده المتكلم ، فقول الحق : { بَشِّرِ ٱلْمُنَافِقِينَ } معناه : أنكم أيها المنافقون قد صنعتم لأنفسكم بالنفاق ما كنتم تحبون ، وكأنكم نافقتم لأنكم تحبون العذاب . ومادمتم قد نافقتم لأنكم تحبون العذاب ، فأنا أبشركم بأنكم ستتعذبون . والذي ينافق ألا يريد من ذلك غاية ؟ لذلك يصور له الحق أن غايته هي العذاب ، فقال الحق : { بَشِّرِ ٱلْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } . إنك حين تريد تصعيد أمر ما ، فأنت تنقل مخاطبك من شيء إلى الشيء المقابل وهو النقيض ، مثال ذلك : إنسان عطشان لأنه محجوز أو مسجون وأراد أن يشرب شربة ماء ، من الممكن أن يقول له الحارس : لا . ويجعله ييأس من أن يَأتي له بكوب ماء ، أما إذا أراد الحارس تصعيد العذاب له فهو يذهب ويأتي بكوب ماء ويقربه منه ، فإذا مد السجين يده ليأخذ كوب الماء فيسكب الحارس كوب الماء على الأرض هذا هو تصعيد العذاب . وحين يقال : " بَشِّر " فالمستمع يفهم أن هناك شيئاً يسر ، فإذا قال الحق : { بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } فمعنى ذلك أن الغم يأتي مركباً . فقد بسط الحق أنفسهم بالبشارة أولاً ، ثم أنهاها بالنذارة . وعلى سبيل المثال - ولله المثل الأعلى - يقول الأب لابنه : استذكر يا بني حتى لا ترسب ، لكن الابن يستمر في اللعب ثم يقول الأب : يا بني لقد اقترب الامتحان ولا بد أن تذاكر . ولا يأبه الابن لكلام الأب ، ثم يأتي الامتحان ويذهب الأب يوم اعلان النتيجة ، فيكون الابن راسباً فيقول الأب لابنه : أهنئك لقد رسبت في الامتحان ! فقوله أهنئك تبسط نفس الابن لأنه يتوقع سماع خبر سار ، ويسمع بعدها لقد رسبت تعطيه الشعور بالقبض . والحق سبحانه وتعالى يبلغ رسوله : { بَشِّرِ ٱلْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } " بشر " لها علاقة بالمدلول الاشتقاقي لأن الانفعالات يظهر أثرها على بشرة وجهه فإن كان الانفعال حزنا فالوجه يظهر عليه الحزن بالانقباض ، وإن كان الانفعال سروراً فالوجه يظهر عليه السرور بالانبساط . وتعكس البشرة انفعالات النفس البشرية من سرور وبشاشة وإشراق أو عبوس وتجهم ، فالبشارة تصلح للإخبار بخبر يسر ، أو بخبر يحزن ويسيء ، ولكنها غلبت على الخبر السار ، وخصت النذارة بالخبر الذي يحزن وتنقبض النفس له . { بَشِّرِ ٱلْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } . والبشارة - كما قلنا - توحي بأن هناك خبراً ساراً ، فيأتي الخبر غير سار . وكما يقول الحق في آية أخرى يصور بها عذاب الكافرين يوم القيامة وكيف أنّه يصعد العذاب معهم : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ } [ الكهف : 29 ] ساعة نسمع { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ } نفهم أن برداً يأتي لهم أو رحمة تهب عليهم ، ولكن الإغاثة التي تأتي لهم هي : { كَٱلْمُهْلِ } [ الكهف : 29 ] ويتساءل السامع أو القارئ : هل هذه إغاثة أو تعذيب ؟ وهذا تصوير لتصعيد العذاب فالماء الذي يعطى لهم كالمهل يصعِّد الألم في نفوسهم . والعذاب - كما نعلم - يأخذ قوته من المعذِّب ، فإن كان المعذِّب ذا قوة محدودة ، كان العذاب محدوداً . وإن كان المعذِّب غير محدود القوة فالعذاب غير محدود ، فإذا ما نسب العذاب إلى قوة القوى وهو الله فكيف يكون ؟ والعذاب يوصف مرة بأنه أليم ، ومرة بأنه مهين ، ومرة بأنه عظيم ، هذه الأوصاف كلها تتجمع ولكل وصف منها جهة فالألم هو إحساس النفس بما يتعبها ، والعذاب العظيم هو العذاب الذي يبلغ القمة ، وقد يبلغ العذاب القمة ولكن المعذَّب يتجلد ، وعذاب الحق يفوق قدرة متلقي العذاب فلا يقدر أن يكتم الألم لأن درجة تحمل أي إنسان مهما تجلد لا تستطيع أن تدفع الألم ، ومع العذاب العظيم ، نجده أليماً أيضا ، فيكون العذاب الأليم العظيم مؤلما للمادة ، لكن النفس قد تكون متجلدة متأبية ، ثم تنهار ، حينئذ يكون العذاب مهينا . ولأن المنافقين والكفار غارقون في المادية آثر الله وصف العذاب بأنه أليم لأن الإيلام يكون للمادة ، ثم يذكر الحق سبحانه وتعالى بعض الأوصاف للمنافقين فيقول : { ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلْكَافِرِينَ … } .