Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 141-141)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله الحق : { ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ } وصف للمنافقين ، ويتربص فلان بفلان . أي أن واحداً يتحفز ليتحسس أخبار آخر ، ويرتب حاجته منه على قدر ما يرى من أخبار ، وعرفنا هذا المعنى من قوله الحق : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ } [ التوبة : 52 ] ويتربص المنافقون بالمؤمنين لأنهم إن وجدوا خيراً قد أتى لهم فهم يريدون الاستفادة منه ، وإن جاء شر فالمنافقون يتجهون للاستفادة من الخصوم ، فظاهراً هم يعلنون الإيمان وهم في باطنهم كفار . وهم يتربصون بالمؤمنين انتظاراً لما يحدث وليرتبوا أمورهم على ما يجيء . { ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ } فإن فتح الله بنصره على المؤمنين في معركة وأخذوا مغانم قال المنافقون : { أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ } ، فلابد لنا من سهم في هذه الغنيمة . وإذا انتصر الكفار يذهبون إلى الكافرين مصداقاً لقول الحق : { وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } . هم يحاولون إذن الاستفادة من الكفار بقولهم : لقد تربصنا بالمؤمنين وانتظرنا ما يحدث لهم ، ولا بد لنا من نصيب . ويقول الحق على ألسنتهم : { قَالُوۤاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } واستحوذ على الشيء أي حازه وجعله في حيزه وملكه وسلطانه . والحق هو القائل : { ٱسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ٱلشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ ٱللَّهِ } [ المجادلة : 19 ] أي جعلهم الشيطان في حيزه ، وقول المنافقين للكافرين : { أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } يكشف موقفهم عندما تقوم معركة بين معسكري الكفر والإيمان فيحاول المنافقون معرفة تفاصيل ما ينويه المؤمنون ، ولحظة أن يدخل المنافقون أرض المعركة فهم يمثلون دور من يأسر الكافرين حماية لهم من سيوف المؤمنين . ثم يقولون للكافرين : نحن استحوذنا عليكم أي منعناكم أن يقتلكم المؤمنون ، ويطلبون منهم الثمن . ولنر الأداء البياني للقرآن حين يقول عن انتصار المؤمنين : { فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ } أما تعبير القرآن عن انتصار الكافرين فيأتي بكلمة " نصيب " أي مجرد شيء من الغلبة المؤقتة . ثم يأتي القول الفصل من الحق : { فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } . وحين يرد الله أمر الكافرين والمؤمنين لا يرده دائماً إلى أمد قد لا يطول أجل السامع وعمره ليراه في الدنيا ، فيأتي له بالمسألة المقطوع بها لذلك لا يقول للمؤمن : إنك سوف تنتصر . فالمؤمن قد يموت قبل أن يرى الانتصار . ولذلك يأتي بالأمر المقطوع وهو يوم القيامة حين تكون الجنة مصيراً مؤكداً لكل مؤمن لأن الحياة أتفه من أن تكون ثمناً للإيمان . ويعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم ألا نطلب الثمن في الدنيا لأن الغايات تأتي لها الأغيار في هذه الدنيا ، فنعيم الحياة إما أن يفوت الإنسان وإما أن يفوته الإنسان . وثمن الإيمان باقٍ ببقاء من آمنت به . إن القاعدة الإيمانية تقول : من يعمل صالحاً يدخل الجنة ، والحق يقول عن هؤلاء الصالحين : { فَفِي رَحْمَةِ ٱللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ آل عمران : 107 ] أي أن الجنة باقية بإبقاء الله لها ، وهو قادر على إفنائها ، أما رحمة الله فلا فناء لها لأنها صفة من صفاته وهو الدائم أبداً . وحين يقول الحق سبحانه وتعالى : { فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي لن يوجد نقض لهذا الحكم لأنه لا إله إلا هو وتكون المسألة منتهية . وقد حكم الحق سبحانه وتعالى على قوم من أقارب محمد صلى الله عليه وسلم ، لقد حكم الله على عم الرسول ، فقال فيه : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَٱمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ ٱلْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } [ المسد : 1 - 5 ] قول الحق سبحانه : { سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ } يدل على أن أبا لهب سيموت على الكفر ولن يهديه الله للإيمان ، مع أن كثيراً من الذين وقفوا من رسول الله مواقف العداء آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويشهد معسكر الكفر فقدان عددٍ من صناديده ، ذهبوا إلى معسكر الإيمان ، فها هوذا عمر بن الخطاب ، وخالد بن الوليد ، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم كل هؤلاء آمنوا . فما الذي كان يدري محمداً صلى الله عليه وسلم أن أبا لهب لن يكون من هؤلاء ؟ ولماذا لم يقل أبو لهب : قال ابن أخي : إنني سأصلى ناراً ذات لهب ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وقلت كلمة الإيمان . لكنه لم يقل ذلك وعلم الله الذي حكم عليه أنه لن يقول كلمة الإيمان . ألم يكن باستطاعة أبي لهب وزوجه أن يقولا في جمع : نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويتم انتهاء المسألة ؟ ولكن الله الذي لا معقب لحكمه قد قضى بكفرهم ، وبعد أن ينزل الحق هذا القول الفصل في أبي لهب وزوجه يأتي قول الحق في ترتيبه المصحفي ليقول ما يوضح : إياكم أن تفهموا أن هذه القضية تنقض ، فسيصلى أبو لهب ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب ، وقال الحق بعدها مباشرة : { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ * ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ } [ الإخلاص : 1 - 2 ] فلا أحد سيغير حكم الله … إذن فقوله الحق : { فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي لا معقب لحكم الله ، فلا إله غيره يعقب عليه . { وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } وهذه نتيجة لحكم الله ، فلا يمكن أن يحكم الله للكافرين على المؤمنين . ولن يكون للكافرين حجة أو قوة أو طريق على المؤمنين . وهل هذه القضية تتحقق في الدنيا أو في الآخرة ؟ ونعلم أن الحق يحكم في الآخرة التي تعطلت فيها الأسباب ، ولكنه جعل الأسباب في الدنيا ، فمن أخذ بالأسباب فنتائج الأسباب تعطيه لأن مناط الربوبية يعطي المؤمن والكافر ، فإن أخذ الكافرون بالأسباب ولم يأخذ المؤمنون بها ، فالله يجعل لهم على المؤمنين سبيلاً ، وقد ينهزم المؤمنون أمام الكافرين . والحكمة العربية تعلمنا : إياك أن تعتبر أنّ الخطأ ليس من جند الصواب . لأن الإنسان عندما يخطئ يُصَحَّحُ له الخطأ ، فعندما يعلم المدرس تلميذه أن الفاعل مرفوع ، وأخطأ التلميذ مرة ونصب الفاعل فهذا يعني أنه أخذ القاعدة أولأً ثم سها عنها ، والمدرس يصحح له الخطأ ، فتلتصق القاعدة في رأس التلميذ بأن الفاعل مرفوع . وهكذا يكون الخطأ من جنود الصواب . والباطل أيضاً من جنود الحق . فعندما يستشرى الباطل في الناس يبرز بينهم هاتف الحق . وهكذا نرى الباطل نفسه من جند الحق ، فالباطل هو الذي يظهر اللذعة من استشراء الفساد ، ويجعل البشر تصرخ ، وكذلك الألم الذي يصيب الإنسان هو من جنود الشفاء لأن الألم يقول للإنسان : يا هذا هناك شيء غير طبيعي في هذا المكان . ولولا الألم لما ذهب الإنسان إلى الطبيب . علينا - إذن - أن نعرف ذلك كقاعدة : الخطأ من جنود الصواب ، والباطل من جنود الحق ، والألم من جنود الشفاء ، وكل خطأ يقود إلى صواب ، ولكن بلذعة ، وذلك حتى لا ينساه الإنسان . وتاريخ اللغة العربية يحكي عن العلامة سيبويه ، وهو من نذكره عندما يلحن أحد بخطأ في اللغة فنقول : " أغضب المخطئ سيبويه " لأن سيبويه هو الذي وضع النحو والقواعد حتى إننا إذا أطلقنا كلمة الكتاب في عرف اللغة فالمعنى ينصرف إلى كتاب سيبويه فهو مؤلف الكتاب . وسيبوبه لم يكن أصلاً عالم نحو ، بل كان عالم قراءات للقرآن ، حدث له أن كان جالساً وعيبت عليه لحنة في مجلس ، أي أنه أخطأ في النحو وعاب عليه من حوله ذلك ، فغضب من نفسه وحزن ، وقال : والله لأجيدن العربية حتى لا ألحن فيها . وأصبح مؤلفاً في النحو . ومثال آخر : الإمام الشاطبي - رضي الله عنه - لم يكن عالم قراءات بل كان عالماً في النحو ، وبعد ذلك جاءت له مشكلة في القراءات فلم يتعرف عليها ، فأقسم أن يجلس للقراءات ويدرسها جيداً . وصار من بعد ذلك شيخاً للقراء . فلحنة - أي غلطة - هي التي صنعت من سيبويه عالماً في النحو ، ومشكلة وعدم اهتداء في القراءات جعل من الإمام الشاطبي شيخاً للقراء على الرغم من أن سيبويه كان عالم قراءات ، والشاطبي كان رجل نحو . ولذلك أكررها حتى نفهمها جيداً : الخطأ من جنود الصواب ، والباطل من جنود الحق ، والألم من جنود الشفاء والعافية . وقد نجد الكافرين قد انتصروا في ظاهر الأمر على المؤمنين في بعض المواقع مثل أُحد ، وكان ذلك للتربية ففي " أحد " خالف بعض المقاتلين من المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الهزيمة مقدمة للتصويب ، وكذلك كانت موقعة حنين حينما أعجبتهم الكثرة : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } [ التوبة : 25 ] والشاعر العربي الذي تعرض لهذه المسألة قال : @ إن الهزيمة لا تكون هزيمة إلا إذا لم تقتلع أسبابها لكن إذا جهدت لتطرد شائباً فالحمق كل الحمق فيمن عابها @@ فعندما يقتلع الإنسان أسباب الهزيمة تصبح نصراً ، وقد حدث ذلك في أحد ، هم خالفوا في البداية فغلبهم الأعداء ، ثم كانت درساً مستفاداً أفسح الطريق للنصر . فإن رأيت أيها المسلم للكافرين سبيلاً على المؤمنين فلتعلم أن الإيمان قد تخلخل في نفوس المسلمين فلا نتيجة دون أسباب ، وإن أخذ المؤمنون بالأسباب أعطاهم النتائج . فهو القائل : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ } [ الأنفال : 60 ] فإن لم يعدّ المؤمنون ما استطاعوا ، أو غرّتهم الكثرة فالنتيجة هي الهزيمة عن استحقاق ، وعلى كل مؤمن أن يضع في يقينه هذا القول الرباني : { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ ٱلأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً } [ فاطر : 43 ] إن إعلان الإيمان بالله ليس هو نهاية أي شيء بل هو البداية ، والمؤمن بالله يأخذ جزاءه على قدر عمله . ويغار الله على عبده المؤمن عندما يخطئ ، لذلك يؤدبه ويربيه - ولله المثل الأعلى - نجد أن الإنسان منا قد لا يصبر على مراجعة الدروس مع أولاده فيأتي بمدرس ليفعل ذلك لأن حب الأب لأولاده يدفع الأب للانفعال إذا ما أخطأ الولد ، وقد يضربه . أما المدرس الخارجي فلا ينفعل بل يأخذ الأمور بحجمها العادي . إذن فكلما أحب الإنسان فهو يتدخل بمقياس الود ويقسو أحياناً على من يرحم . والشاعر العربي يقول : @ فقسى ليزدجروا ومن يكُ حازماً فليقس أحيانا على من يرحمُ @@ ومثال آخر - ولله المثل الأعلى - الإنسان إذا ما دخل منزله ووجد في صحن المنزل أطفالاً يلعبون الميسر منهم ابنه وابن الجار ، وطفل آخر لا يعرفه ، فيتجه فوراً إلى ابنه ليصفعه ، ويأمره بالعودة فوراً إلى الشقة ، أما الأولاد الآخرون فلن يأخذ ابن الجار إلا كلمة تأنيب ، أما الطفل الذي لا يعرفه فلن يتكلم معه . وهكذا نجد العقاب على قدر المحبة والود ، والتأديب على قدر المنزلة في النفس . ومن لا نهتم بأمره لا نعطي لسلوكه السيئ بالاً . وساعة نرى لأن للكافرين سبيلاً على المؤمنين فلنعلم أن قضية من قضايا الإيمان قد اختلت في نفوسهم ، ولا يريد الله أن يظلوا هكذا بل يصفيهم الحق من هذه الأخطاء بأن تعضهم الأحداث . فينتبهوا إلى أنهم لا يأخذون بأسباب الله . ويقول الحق بعد ذلك : { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ … } .