Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 142-142)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

نعرف واقع المنافقين أنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ويوضح الحق : إياكم أن تظنوا أن في قدرة مخلوق أن يفعل شيئاً بدون علم الله ، وقد يمكر إنسان بك ، وهو يعلم أنك تعلم بمكره ، فهل هذا مكر ؟ لا لأن المكر هو الأمر الذي يتم خفية بتدبير لا تعلمه ، والأصول في المكر ألا يعلم الممكور به شيئاً . والمنافقون حين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر يخادعون من يعلم خافية الصدور . وكان يجب أن يأخذوا درساً من معاملة الله بوساطة المؤمنين لهم ، فقد صان المؤمنون دم المنافقين ومالهم . وأجرى المسلمون على المنافقين أحكام الإسلام ، لكن ما الذي يبيته الله لهؤلاء المنافقين ؟ لقد بيت لهم الدرك الأسفل من النار . فمن الأقدر - إذن - على الخداع ؟ إن الذكي حقاً هو من لا يخدع من يعلم أنه قادر على كشف الخداع . وكلمة " خدع " تعني مكر به مكراً فيبدي له قولاً وفعلاً ويخفى سواهما حتى يثق فيه . وبعد ذلك ينفذ المكر . وهناك كلمة " خدع " وكلمة " خادع " . والحق في هذه الآية لم يقل إن الله يخدعهم ، بل قال : { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } . و " خادع " تعني حدوث عمليتين ، مثل قولنا : قاتل فلان فلانا . فالقتال يحدث بين طرفين . وكذلك نقول : شارك فلان فلانا لأن مادة " فاعل " تحتاج إلى طرفين . لكن عندما نقول " قتل " ، فالفعل يحدث من جانب واحد . والخداع يبدأ من واحد ، وعندما يرى الشخص الذي يُراد خداعه أن خصمه أقوى منه فإنه يبيت له خداعاً آخر ، وتسمى العملية كلها " مخادعة " ، ويقال : خادعه فخدعه إذا غلبه وكان أخدع منه . ومن إذن الذي غلب ؟ إن الذي بيَّت الخداع رداً على خداع خصمه هو الغالب . ولأن الخداع يحدث أولاً ، وبعد ذلك يتلقى " المخدوع " الأمر بتبييت أكبر فهو " خادع " ، والذي يغلب نقول عنه : " أخدعه " أي أزال خداعه . والله سبحانه وتعالى عاملهم بمثل ما أرادوا أن يعاملوا به المؤمنين ، فالمنافقون أظهروا الإيمان أولاً وأضمروا الكفر ، وأعطاهم الله في ظاهر الأمر أحكام المسلمين ، وفي الباطن قرر أن يعذبهم عذاب الكافرين بل وأشد من ذلك لأنهم سيكونون في الدرك الأسفل من النار . { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } وإياك أيها المسلم أن تشتق من هذه العملية اسما لله وتقول " المخادع " لأن أسماء الله توقيفية أي لا نسمي الله إلا بالأسماء التي سمَّى بها نفسه . وسبحانه يفعل الفعل ، لكن لا تأخذ من هذا الفعل اسماً ، والحق يعطينا هنا " مشاكلة " ليوضح لنا أن المنافقين يمكرون ويبيتون شراً للمؤمنين ، وأنت أيها المسلم تعرف أن الإنسان إنما يبيت الشر على قدر طاقته التي مهما كبرت فهي محدودة بجانب طلاقة قدرة الله . ولذلك يفضح الله هذا الشر المبيت من هؤلاء المنافقين ، وهم حين يمكرون فالله بطلاقة قدرته يمكر بهم أي يبطل مكرهم ويجازيهم على سوء فعلتهم ، ولا نقول : " الله ماكر " . ولله أن يقول في الفعل المشاكل ما يشاء . { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوۤاْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ } . إن الغايات من الأحداث هي التي تضفي على الجوارح الإقبال على الأحداث ، فإذا كنت تحب الحدث الذي تقبل عليه فأنت تقبل عليه بكل اشتياق ولهفة . ويقيسون لهفة اللقاء لأنها تحدد درجة المحبة . والشاعر العربي يصف لقاء حبيب بحبيبته : @ لقاء الاثنين يبين حَدَّهْ تلهف كَيْفٍ واستطالة مًدَّهْ @@ فلحظة اللقاء تبين ما بين الحبيبين من مودة ، فإن كانت المسألة بينهما عشر خطوات فهما يسرعان باللهفة فيقطعان العشر خطوات في ثلاث خطوات ، وهذا معناه تقصير زمن الابتعاد ، وكذلك تظهر الكيفية التي يتم بها السلام درجة المودة ، فقد يسلم أحدهما على الآخر ببرود أو بنصف ود ، أو بود كبير ، أو بود مصحوب بلهفة وأخذ متبادل بالأحضان وكذلك المدة التي يحتضن كلاهما الآخر ، هل هي دقيقة أو دقيقتان أو ثلاث ؟ إذن فالذي يبين قيمة الود : التلهف ، الكيفية ، المدة . وهذه العناصر الثلاثة أخذها الشعراء للتعبير عن المودة والحب بين البشر ، وقديماً كان الذين يُتَيَّمون بالنساء يسترون في السلام مودتهم . وفي الحضارة الغربية التي سقطت فيها قيم الأديان نجد أن الرجل يتلقى المرأة بالقبلات . وفي بعض البلاد نجد الرجل يصافح المرأة ، فهل يصافحها بتلهف ، وهل تبادله هذه اللهفة ؟ فإن وجدت الكف مفردة ومبسوطة للمصافحة فقط فهذا سلام عادي . أما إذا ثنى أحدهما إصبعه البنصر على كف الآخر فعليك أن ترى أي طرف هو الذي قام بثني أصبعه ليحتضن اليد كلها في يده ، فإن كان ذلك من الرجل فاللهفة منه ، وإن كان من المرأة فاللهفة منها ، وإن كان من الاثنين فاللهفة منهما معا ، ثم ما المدة التي يستغرقها بقاء اليد في اليد ؟ وقد يحلو لكليهما معاً - رجل وامرأة - وكأن الكلام قد أخذهما فنسي كل منهما يده في يد الآخر . @ سلام نوعين يبين حَدَّهْ تلهف كيف واستطالة مُدَّهْ @@ هكذا يقابل الإنسان الأحداث ، فإن كان الحدث ساراً فالإنسان يقبل عليه بلهفة . وإن كان غير ذلك فالإنسان يقوم إليه متثاقلاً . وكان المنافقون يقومون إلى الصلاة بتثاقل وتكاسل : { وَإِذَا قَامُوۤاْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ } كأنهم يؤدون الصلاة كستار يخفون به نفاقهم ، ويستترون بها عن أعين المسلمين . ولم يكن قيامهم للصلاة شوقاً إلى لقاء الله مثلما كان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال - رضي الله عنه - طالبا منه أن يؤذن للصلاة : " يا بلال أرحنا بالصلاة " . لأن المؤمن يرتاح عندما يؤدي الصلاة ، أما المنافق فهي عملية شاقة بالنسبة إليه لأنه يؤديها ليستتر بها عن أعين المسلمين ولذلك يقوم إليها بتكاسل . { وَإِذَا قَامُوۤاْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } . هم يقيمون الصلاة ظاهرياً أمام الناس ليخدعوا المسلمين وليشاهدهم غيرهم وهم يصلون . وفي الصلاة التي يراءون بها الناس لا يقولون كل المطلوب منهم لتمامها ، يقولون فقط المطلوب قوله جهراً . كأن يقرأوا الفاتحة وبعض القرآن ولكنهم في أثناء الركوع لا يسبحون باسم الله العظيم وكذلك في السجود لايسبحون باسم الله الأعلى . ففي داخل كل منافق تياران متعارضان … تيار يظهر به مع المؤمنين وآخر مع الكافرين . والتيار الذي مع المؤمنين يجبر المنافق على أن يقوم إلى الصلاة ويذكر الله قليلاً ، والتيار الذي مع الكافرين يجعله كسولاً عن ذلك ، ولا يذكر الله كثيرا . وإذا ما حسبنا كم شيئا يجهر به المصلي وكم شيئاً يجريه سراً فسنجد أن ما يجريه المصلي سراً في أثناء الصلاة أكثر من الجهر . ففي الركوع يقول : سبحان ربي العظيم ثلاث مرات ، ويقول : سبحان ربي الأعلى ، في كل سجود ثلاث مرات ، أما المنافق فلا يذكر الله إلا جهراً ، وهو ذكر قليل . ونجد المنافق لا يفعل فعلاً إلا إذا كان مَرْئيا ومسموعا من غيره ، هذا هو معنى المراءاة . أما الأعمال والأقوال التي لا تُرَى من الناس ولا تُسمع فلا يؤديها . ولا يهز المجتمعات ولا يزلزلها ويهدُّها إلا هذه المراءاة لأن الحق سبحانه يحب أن يؤدي المسلم كل عمل جاعلاً الله في باله ، وهو الذي لا تخفى عليه خافية . ويلفتنا إلى هذه القضية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول عن الإحسان : " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " . وإذا كان الإنسان يخجل من أن يغش واحداً مثله من البشر غشاً ظاهرياً فما بالنا بالذي يحاول غش الله وهو يعلم أن الله يراه ؟ ولماذا يجعل ذلك العبد ربه أهون الناظرين إليه ؟ وعندما يغش واحداً آخر واكتشف الآخر غشه فهو يعاقبه فما بالنا بغش الله ؟ ! ولذلك تجد الرسول صلى الله عليه وسلم ينقل لنا حال المرائي للناس فيقول : " إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ، قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : الرياء ، يقول الله - عز وجل - يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء ؟ " . وقال صلى الله عليه وسلم : " إن المرائي ينادى عليه يوم القيامة " يا فاجر " " يا غادر " " يا مرائي " ضل عملك وحبط أجرك فخذ أجرك ممن كنت تعمل له " . إذن فالمنافق إنما يخدع نفسه ، هو يتظاهر بالصلاة ليراه الناس . ويزكي ليراه الناس ، ويحج ليراه الناس ، هو يعمل ما أمر الله به ، لكنه لا يعلمه الله ، ولذلك قال القرآن : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [ النور : 39 ] وقال عن لون ثان من نفاقهم : { كَٱلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } [ البقرة : 264 ] والصفوان هو الحجر الأملس تماما وهو الذي ليس فيه خشونة ، لأن الحجر إن كان به جزء من خشونة وعليه تراب ثم سقط عليه المطر ، فالتراب يتخلل الخشونة . أما الحجر الأملس فمن فور نزول المطر ينزلق من عليه التراب . ومن يرائي المؤمنين عليه أن يأخذ أجره ممن عمل له . ويستكمل الحق وصف الحالة النفسية للمنافقين فيقول : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ … } .