Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 143-143)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والشيء المذبذب مثل المعلق في خيط فيأخذه الريح إلى ناحية ليقذفه في ناحية أخرى لأنه غير ثابت ، مأخوذ من " المذبة " ومنه جاءت تسمية " الذباب " الذي يذبه الإنسان فيعود مرة أخرى ، فمن سلوك الذباب أنه إذا ذُبّ عن مكان لا بد أن يعود إليه . { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ } فهل هم الذين ذبذبوا أنفسهم أم تلك هي طبيعتهم ؟ ولنتأمل عظمة الحق الذي سوى النفس البشرية ففي الذات الواحدة آمر ومأمور ، والحق يقول : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] أي أن الإنسان يقي نفسه بأن يجعل الآمر يوجه الأمر للمأمور ، ويجعل المأمور يطيع الآمر ، ودليل ذلك قول الحق عن قابيل : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } [ المائدة : 30 ] أي أن جزءًا من الذات هو الذي طوَّع بقية ذات قابيل لتقتل هابيل . فقد خلق الله النفس البشرية كملكات متعددة ، ملكة تحب الأريحية وأخرى تحب الشح ، والملكة التي تحب الأريحية إنما تطلب ثناء الناس ، والتي تحب الشح إنما تفعل ذلك ليطمئن صاحبها أنه يملك ما يغنيه . وكلتا الملكتين تتصارع في النفس الواحدة لذلك يقول الحق : { قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } فالنفس تقي النفس لأن الملكات فيها متعددة . وبعض الملكات تحب تحقيق المتعة والشهوة ، لكن هناك ملكة إيمانية تقول : تذكر أن هذه الشهوات عاجلة ولكنها عظيمة المتاعب فيما بعد . إذن فهناك صراع داخل ملكات الإنسان ، ويوضح لنا الحق هذا الصراع في قوله : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } . لأن قابيل أراد أن يقتل هابيل بغريزة الاستعلاء ، ونازعته نفسه بالخوف من الإثم . لقد دارت المراودة في نفس قابيل إلى أن سيطرت غريزة الاستعلاء فأمرت بالقتل وطوعت بقية النفس . وهذا يكشف لنا أن النفس البشرية فيها ملكات متعددة ، كل ملكة لها مطلوب . والدين هو الذي يقيم التعايش السلمي بين الملكات . مثال آخر : الغريزة الجنسية تقيم السعار في النفس ، فيقوم الوعي الإيماني بردع ذلك بأن تقول النفس الإيمانية : إياك أن تلغ في أعراض الناس حتى لا تلغ الناس في أعراضك ، ولماذا لا تذهب وتتزوج كما شرع الله ، ولا ترم أبنائك في فراش غيرك لأن الغريزة مخلوقة لله فلا تجعل سلطان الغريزة يأمر وينهى . وهكذا نرى أن النفس تضم وتشمل الملكات والغرائز ، ولا يصح أن يعدي الإنسان غريزة إلى أمر آخر لأنه إن عدى الشهوات فسدت الدنيا . وعلى سبيل المثال نحن نستخدم الكهرباء التي تعطي لنا النور في حدود ما يرسم لنا مهندس الكهرباء ، الذي وضع القطب الموجب في مجاله وكذلك القطب السالب ، بحيث نأخذ الضوء الذي نريده أو تعطينا شرارة لنستخدمها كقوة لإدارة آلة ، لكن لو التقى القطب الموجب بالقطب السالب على غير ما صنع المهندس لحدثت قفلة كهربائية تسبب حريقاً أو فساداً . وكذلك النفس البشرية ، إن التقى الذكر مع الأنثى كما شرع الله فإن البشرية تسعد ، وإن حدث غير ذلك فالذي يحدث في المجتمع يصير حريقاً نفسياً واجتماعياً لا حدود لآثاره الضارة ، وهكذا نرى أن النفس ليس فيها دافع واحد بل فيها دوافع متعددة . ونجد غريزة الجوع تحرك النفس إلى الطعام ، ويستجيب الدين لذلك لكنه يوصي أن يأكل الإنسان بشرط ألا يتحول تناول الطعام إلى شره ، كما جاء في الحديث : " بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه " . فالطعام لبقاء النوع . والإنسان محب للاستطلاع ، فيأمر الإسلام الإنسان بأن يستطلع أسباب الله في الكون ليزيد من صلاح الكون ، وينهى الإسلام عن استخدام حب الاستطلاع في التجسس على الناس ، وهكذا تتوازن الملكات بمنهج الإسلام ، وعلى المسلم أن يعايش ملكاته في ضوء منهج الله معايشة سليمة حتى تكون النفس الإنسانية متساندة لا متعاندة ، لتعيش كل الملكات في سلام ، ويؤدي كل جهاز مهمته كما أراد الله . لكن المنافق يحيا مذبذباً وقد صنع بنفسه ، فقد أرخى لبعض ملكاته العِنان على حساب ملكات أخرى { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ } إن الكافر يمتاز عن المنافق - ظاهرا - بأنه منسجم مع نفسه ، هو غير مؤمن بالإسلام ويعلن ذلك ولكنه في حقيقة الأمر يتصارع مع فطرته التي تدعوه إلى الإيمان . قد يقول قائل : وكيف يتساوى الذي أظهر الإيمان وأبطن الكفر مع الذي أعلن الكفر ؟ ونقول : الكافر لم يخدع الطائفة المؤمنة ولم يقل كالمنافق إنه مع الفئة المؤمنة وهو ليس معها بل يعلن الكافر كفره منسجماً مع نفسه ، لكن المنافق مذبذب خسيس في وضعه الإنساني والرجولي . { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } . والله لا يضل عبداً بشكل مباشر فسبحانه يُعلم خلقه أولاً بالرسل والمنهج ، لكنه يضل من يصر على عدم الإيمان ، لذلك يتركه على ضلاله وعماه . صحيح أن في قدرة الله أن يأخذه إلى الإيمان قهراً ، لكنه سبحانه يترك الإنسان لاختياره . فإن أقبل الإنسان على الله فسبحانه يعينه على الهداية ، أما إن لم يقبل فليذهب إلى تيه الضلال . ويزين له الدنيا ويعطيه منها لكنه لن يجد سبيلاً فسبيل الله واحد . وليس هناك سبيلان . ونذكر هذه الحكاية لنعرف قيمة سبيل الله . كان الأصمعي - وهو مؤلف عربي له قيمة كبيرة - يملك أذناً أدبية تميل إلى الأساليب الجميلة من الشعر والنثر ، ووجد الأصمعي إنساناً يقف أمام باب الملتزم بالكعبة المشرفة ، وكان الرجل يدعو الله دعاء حاراً " يا رب : أنا عاصيك ، ولولا أنني عاصيك لما جئت أطلب منك المغفرة ، فلا إله إلا أنت ، كان يجب أن أخجل من معصيتك ولكن ماذا أفعل " . وأعجب الأصمعي بالدعاء ، فقال : يا هذا إن الله يغفر لك لحسن مسألتك . ومن بعد ذلك يقول الحق : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } .