Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 155-155)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لقد نقضوا كل المواثيق والأشياء التي تقدمت . ومعنى الميثاق هو العهد المؤكد الموثق . ونقض الميثاق هو حله ، وهذا ما يستوجب ما يهددهم الله به ، وكفروا بآيات الله التي أنزلها لتؤيد موسى عليه السلام ، وقتلوا أنبياء الله بغير حق . وادعوا - تعليلاً لذلك - أن قلوبهم غلف لا تسمع للدعوى الإيمانية ، أي أن قلوبهم مغلفة مغطاة أي جُعل عليها غلافٌ ، بحيث لا يخرج منها ما فيها ولا يدخل فيها ما هو خارج عنها . وأرادوا بذلك الاستدراك على الله ، فقالوا : قلوبنا لا يخرج منها ضلال ولا يدخل فيها إيمان . وسبق أن تقدم مثل هذا في قول الحق : { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } [ البقرة : 6 - 7 ] ونقول : أهي القلوب خُلقت غلفاً … أي أن القلوب خلقت مختوماً عليها بحيث لا يدخلها هدى ولا يخرج منها ضلال ، أم أنتم الذين فعلتم الختم وأنتم الذين صنعتم الغلاف ؟ وسبحانه أوضح في آيتي سورة البقرة أنه جل وعلا الذي ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة . فالختم على القلب حتى لا يتعرفوا إلى الدليل لأن القلب محل الأدلة واليقين والعقائد . والختم على الأسماع والأبصار هو الختم على آلات إدراك الدلائل البينات على وجود الحق الأعلى فمقر العقائد مختوم عليه وهو القلب ، ومضروب على الآذان وعلى البصر غشاوة ، فهل هذا كائن بطبيعة تكوين هؤلاء ؟ لا لأنه إذا كان هذا بطبيعة التكوين فلماذا خصَّهم الله بذلك التكوين ؟ ولماذا لم يكن الذين اهتدوا مختوماً لا على قلوبهم ولا على أسماعهم ولا على أبصارهم ؟ غير أن الواحد منهم يبرر لنفسه وللآخرين انحرافه وإسرافه على نفسه بالقول : " خلقني الله هكذا " وهذا قول مزيف وكاذب لأن صاحبه إنما يكفر أولاً ، فلما كفر وانصرف عن الحق تركه الله على حاله لأن الله أغنى الشركاء عن الشرك ، فمن اتخذ مع الله شريكاً فهو للشريك وليس لله . إذن فالختم جاء كنتيجة للكفر . وقدمت آيات سورة البقرة الحيثية : أن الكفر يحدث أولاً ، ثم يأتي الختم على القلب والسمع والبصر نتيجة لذلك . وهنا في آية سورة النساء : { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } . فالكفر جاء أولاً ، وفي ذلك رد على أي إنسان يقول : " إن الله لا يهديني " . ولا يلتفت إلى أن الله لا يهدي من كفر به ، وكذلك الفاسق أو الظالم ، والمثال الأكبر على ذلك إبليس الذي كفر أولاً . وبعد ذلك تركه الله لنفسه واستغنى عنه . ولنا هنا وقفة لفظية مع قوله الحق : { فَبِمَا نَقْضِهِم } لأن الفهم السطحي لأصول الأسلوب قد يتساءل : لماذا جاءت " ما " هنا ؟ وبعضهم قال : إن " ما " هنا زائدة . ونقول : إياك أن تقول إن في كلام الله حرفاً زائداً لأن معنى ذلك أن المعنى يتم بغير وجوده ويكون فضولاً وزائدا على الحاجة ولا فائدة فيه ، ولكن عليك أن تقول : " أنا لا أفهم لماذا جاء هذا الحرف " ، خصوصاً ونحن في هذا العصر نعيش كأمة بلاغتها مصنوعة ، ولا نملك اللسان العربي المطبوع . ولولا أننا تعلمنا العربية لما استطعنا أن نتكلمها . أما العربي الفصيح الذي نزل عليه القرآن فقد كان يتكلم اللغة العربية دون أن يجلس إلى معلم ، ولم يتلق العلم بأن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب بل تكلم اللغة بطبيعته وملكته . أما نحن فنعيش في زمن مختلف . وطغت علينا العجمة وامتلأت آذاننا باللحن ، وصرنا نُعلّم أنفسنا قواعد اللغة العربية حتى نتكلم بأسلوب صحيح . وقد جاءت القواعد في النحو من الاستنباط من السليقة العربية الأولى التي كانت بغير تعليم . واستقرأ العلماء الأساليب العربية فوجدوا أن الفاعل مرفوع والمثنى يُرفع بالألف ، وجمع المذكر السالم يُرفع بـ " الواو " وهكذا أخذنا القواعد من الذين لا قواعد لهم بل كانوا يتكلمون بالسليقة وبالطبيعة والملكة . لقد سمع العربي قديماً ساعة نزل القرآن قوله الحق : { فَبِمَا نَقْضِهِم } ولم يتنبه واحد منهم إلى أن شيئاً قد خرج عن الأسلوب الصحيح ، ونعلم أن بعضاً من العرب كانوا كافرين برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يصدقون القرآن ، ولو كانت هناك كلمة واحدة تخرج عن المألوف في اللغة لصرخوا بها وأعلنوها . ولكن القرآن جاء بالكلام المعجز على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغهم به ، موضحاً : جئت بالقرآن معجزة تعجزون عن محاكاته مع أنكم عرب وفصحاء . والمتحدَّى يحاول دائماً أن يتصيد خطأ ما ، ولم يقل واحد من العرب إن في القرآن لحناً ، وهذا دليل على أن الأسلوب القرآني يتفق مع الملكة العربية . وقوله الحق : { فَبِمَا نَقْضِهِم } هي في الأصل : بنقضهم الميثاق فعلنا بهم ما صاروا إليه ، و " ما " جاءت هنا لماذا ؟ قال بعض العلماء : إنها " ما " زائدة ، وهي زائدة للتأكيد . ونكرر : إياك أن تقول إن في كلام الله حرفاً زائداً ، لقد جاءت " ما " هنا لمعنى واضح . والحق في موقع آخر من القرآن يقول : { مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } [ المائدة : 19 ] وقالوا : إن أصل العبارة " ما جاءنا بشير " ، وإن " مِن " جاءت زائدة حتى يتسق اللفظ . ونقول : لو أن العبارة جاءت كما قالوا لما استقام المعنى ، ولإيضاح ذلك أضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - عندما يقول واحد : " ما عندي مال " فهذا نفى أن يكون عند القائل مال ، ولعل لديه قدراً من المال القليل الذي لا يستأهل أن يسميه مالاً . ولكن إذا قال واحد : " ما عندي من مال " فالمعنى أنه لا يملك المال على إطلاقه أي أنه مفلس تماماً ، ولا يملك أي شيء من بداية ما يقال إنه مال . إذن " ما جاءنا بشير " ليست مثل قوله : " ما جاءنا من بشير " . فالمعنى أنه لم يأتهم أي رسول بشير أو نذير من بداية ما يقال إنه رسول . إذن فقوله الحق : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } أي بسبب نقض الميثاق فعلنا بهم كذا . لماذا إذن أثار العلماء هذه الضجة ؟ السبب في ذلك هو وجود ما بعد " الباء " وقبل المصدر ، أي أنهم نقضوا العهد بكل صورة من صوره ، فنقض العهد والميثاق له صور متعددة فـ ما هنا استفهامية جاءت للتعجيب أي على أيَّة صورة من صور نقض ونكث العهد لعناهم ؟ لعناهم لكثرة ما نقضوا من العهود والمواثيق . والحق قد قال : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ ٱللَّهِ وَقَتْلِهِمُ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 155 ] ولم يقل : فبما نقضتم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف ، طبع الله على قلوبهم . فوجود " بل " يدلنا على أن هناك أمراً أضربنا عنه . فنحن نقول : جاءني زيد بل عمرو . أي أن القائل قد أخطأ ، فقال : " جاءني زيد " واستدرك لنفسه فقال : " بل عمرو " . وبذلك نفى مجيء زيد وأكد مجيء عمرو . والحق قال : { بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } . كان المقتضي في الأسلوب العادي أن يقول : " بكفرهم وبقتلهم الأنبياء طبع الله على قلوبهم " . ولكن سبحانه لم يقل ذلك لحكمة بالغة . وحتى نعرف تلك الحكمة فلنبحث عن المقابل لـ " طبع الله على قلوبهم " ، المقابل هو " فتح الله على قلوبهم بالهدى " . وجاء قول الحق معبراً تمام التعبير عن موقفهم : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ ٱللَّهِ وَقَتْلِهِمُ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا } . وهكذا نرى عظمة القرآن الذي يأتي بالمعنى الدقيق ويجب أن نفكر فيه ونتدبر كل كلمة منه . الحق - إذن - يقدم الأسباب لما صنعه بهم بالحيثيات ، من نقضهم للميثاق ، وكفرهم بآيات الله ، وبقتلهم للأنبياء بغير حق لذلك لم يفتح الله عليهم بالهدى ، بل طبع الله على قلوبهم بالكفر . فوجود " بل " دليل على أن هناك أمراً قد نفي وأمراً قد تأكد . والأمر الذي نفاه الله عنهم أنه لم يفتح عليهم بالهدى والإيمان ، والأمر الذي تأكد أنه سبحانه قد طبع على قلوبهم بالكفر . وفي آية أخرى قال عنهم : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 88 ] فقلوبهم ليست غلفاً ، ولكن هي لعنة الله لهم وإبعاده لهم وطردهم واستغناؤه عنهم لذلك تركهم لأنفسهم فغلبت عليهم الشهوات . ولماذا ذيل الحق الآية بقوله : { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } ؟ لأن المقصود به عدم إغلاق باب الإيمان على إطلاقه أمام هؤلاء الناس ، وهو - كما عرفنا من قبل - " صيانة الاحتمال " . فقد يعلن واحد من هؤلاء إيمانه الذي خبأه في نفسه ، فكيف يجد الفرصة لذلك إن كان الله قد قال عنهم جميعاً { وَطَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } ؟ إن الذي يَرْغَبُ في إعلان الإيمان منهم لا يجد الباب مفتوحاً ، ولكن عندما يجد الحق قد قال : { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } فهو يعلم أن باب الإيمان مفتوح للجميع . وبعد ذلك يقول الحق : { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ … } .