Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 170-170)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فبعد أن وصف لنا - بإيجاز محكم - سلسلة المعارك التي نشأت بين الرسول واليهود مرة ، ومرة أخرى بينه وبين المشركين ، وها هوذا سبحانه يخاطب الناس جميعاً ، ليصفي مركز منهج الله في الأرض ، فيقول منبهاً كل الناس : لقد جاءت رسالة محمد عليه الصلاة والسلام تصفية لكل الرسالات التي سبقت ، وعلى الناس جميعاً أن يميزوا ، ليختاروا الحياة الإيمانية الجديدة لأن الرسول قد جاء بالنور والبرهان ، البرهان الذي يرجح ما هو عليه صلى الله عليه وسلم على ما هم عليه ، والنور الذي يهديهم سواء السبيل . لقد كان الناس قبل رسول الله على مِلَلٍ وعلى أديان ونحل شتى ، فجاء البرهان بأن الإسلام قد جاء ناسخاً وخاتماً . والبرهان هو تعاليم هذا الدين وأدلته ، فلا حجة لأحد أن يتمسك بشيء مما كان عليه . وجاء محمد بالنور الذي يهدي الإنسان إلى سواء السبيل ، وهذه تصفية عقدية شاملة ، أو كما نقول بالعامية " أوكازيون إيماني " تتخلص به البشرية من كل ما يشوب عقائدها ، ولتبدأ مرحلة جديدة . { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلرَّسُولُ بِٱلْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ } والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير مهما تغيرت عليه الظروف لأن الحق صدق له لون واحد ، فإذا ما رأيتم جميعاً حادثة واحدة ، ثم جاء كل واحد منكم فأخبر بها إخبار صدق فلن تختلف رواية الحادثة من واحد لآخر . أما إن سولت نفس بعض الناس لهم أن يتزيدوا في الحادثة فكل واحد سيحكي الحادثة على لون مختلف عن بقية الألوان ، وقد يسافر خيال أحدهم في شطحة الكذب ويسترسل فيه . إذن فالذي لا يتغير في الحق هو أن يحكوا جميعاً الرواية الواحدة بصدق ولو كانوا ملايين الناس ، لكن إن سولت نفوس بعضهم الكذب وحسنته له وأغرته به لاختلفت الرواية لأن الكذب مشاع أوهام ولا حقيقة له . والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا : لقد جاءكم الرسول بالحق مهما تغيرت الظروف والأحوال ، ومهما جئتم إليه من أي لون ، سواء في العقديات أو في العباديات أو في الأخلاق أو في السلوك . وستجدون كل شيء ثابتاً لأنّه الحق . ويضرب الحق سبحانه وتعالى لنا مثلاً في هذا الحق : { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ } [ الرعد : 17 ] كل وادٍ يأخذ ماء على قدر حجمه ، وساعة ينزل السيل من الجبال يحمل معه التراب والقش والأشياء التي لا لزوم لها ، وهو ما نسميه " الريم " وهو الزَّبَد الرابي . وكذلك الحديد أو النحاس أو الذهب الذي نصنع منه الحلي أو أدوات المتاع ، وعندما نضع هذه المعادن في النار ، نجد الزِّبَد يفور على سطح هذه المعادن عندما تنصهر ، وتسمى هذه الأشياء الخبث . ويوضح الحق لنا كيف يضرب الحق والباطل . { فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ } [ الرعد : 17 ] ومهما اختلطت بالحق أشياء فهو كحق يبعد ويطرد هذه الفقاقيع والخبث وينحيها عنه . فإن علا الباطل يوماً على الحق فلنعلم أنه علو الزَّبَد الذي يذهب جفاء مرميا به ومطروحا ، وسيظل الحق هو الحق . وسبحانه يقول : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلرَّسُولُ بِٱلْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ } . والإيمان هو اعتناق العقيدة بوجود الإله الأعلى ، والبلاغ عنه بواسطة الرسل ، وأن للحق ملائكة ، وأن هناك بعثاً بعد الموت ، وحساباً . ويقتضي الإيمان أن نعمل العمل وَفق مقتضياته وذلك هو اختيار الخير ، ولنعلم جيداً أن الإيمان لا ينفصل عن العمل . وماذا يحدث لو لم يؤمن الناس ؟ ها هوذا الحق يقول : { وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } وسبحانه غني ، وسيظل كَونُه الثابتُ - بنظرية القهر والتسخير - هو كونه ، ولن يتغير شيء في الكون بكفر الكافرين ، سوى سخط الكون عليهم لأنه مسخر لهم لأن الكون ملك لله ، ولن تتغير السماء ولا النجوم ولا القمر ولا المطر ولا أي شيء . ونقول لك : لو نظرت إلى الدنيا لوجدت الفساد فيها ناشئاً مما فعلته وأحدثته يد الإنسان على غير منهج الله ، أما الشيء الذي لم تدخل فيه يد الإنسان فهو لا يفسد ، ولم نر يوماً الشمس وقد عصيت عن الشروق أو الغروب ، وكذلك القمر لم تختل حركته ، وكذلك النجوم في الأفلاك ، وتسير الرياح بأمر خالقها ، وكل شيء في الكون منتظم الحركة ، اللهم إلا الأشياء التي يتدخل فيها الإنسان ، فإذا كان قد دخلها بمواصفات منهج الله فهي منسجمة مع نفسها ومع الكون ، وإن دخلها بغير مواصفات منهج الله فلن تستقيم ، بل تفسد . ولذلك قال الحق : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد : 11 ] إن الأمر الفاسد إنما يأتي من داخل نفوس البشر عندما يضلون عن منهج الله ، ولذلك نقول : أشَكى الناس أزمة ضوء ؟ . لا لأن الشمس ليست في متناولنا ، وكذلك لم يشك الناس أزمة هواء ، لكنهم يشكون أزمة طعام لأن الطعام ينبت من الأرض ، فإما أن يكسل الإنسان مثلاً فلا يعمل ، وإما أن يعمل ويخرج ثمراً فيأخذه بعضهم ويضنوا ويبخلوا ولا يعطوه لغيرهم ، وهذا سبب من أسباب الفساد الناشئ في الكون . وجاء الحق لهم بما يمكن أن يكون فتحاً يدخلون فيه بالإيمان بمنهج الرسول الخاتم ، ويكفرون عن أخطائهم مع أنبيائهم ومع محمد صلى الله عليه وسلم ، يقول سبحانه : { يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ … } .