Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 1-1)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وساعة يدعو الله سبحانه الناس إلى تقواه يقول : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ … } [ النساء : 1 ] ومعنى { ٱتَّقُواْ رَبَّكُم … } [ النساء : 1 ] أي اجعلوا بينكم وبينه وقاية ، وماذا أفعل لأتقي ربنا ؟ أول التقوى أن تؤمن به إلهاً ، وتؤمن أنه إله بعقلك ، إنه - سبحانه - يعرض لك القضية العقلية للناس فيقول : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ … } [ النساء : 1 ] ولم يقل : اتقوا الله ، لأن الله مفهومه العبادة ، فالإله معبود له أوامر وله نواهٍ ، لم يصل الحق بالناس لهذه بعد ، إنما هم لا يزالون في مرتبة الربوبية ، والرب هو : المتولي تربية الشيء ، خلقاً من عدم وإمداداً من عدم ، لكن أليس من حق المتولي خلق الشيء ، وتربيته أن يجعل له قانون صيانة ؟ إن من حقه ومسئوليته أن يضع للمخلوق قانون صيانة . ونحن نرى الآن أن كل مخترع أو صانع يضع لاختراعه أو للشيء الذي صنعه قانون صيانة ، بالله أيخلق سبحانه البشر من عدم وبعد ذلك يتركهم ليتصرفوا كما يشاؤون ؟ أم يقول لهم : اعملوا كذا وكذا ولا تعملوا كذا وكذا ، لكي تؤدوا مهمتكم فى الحياة ؟ إنه يضع دستور الدعوة للإيمان فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ … } [ النساء : 1 ] . إذن فالمطلوب منهم أن يتقوا ، ومعنى يتقوا أن يقيموا الوقاية لأنفسهم بأن ينفذوا أوامر هذا الرب الإله الذي خلقهم ، وبالله أيجعل خلقهم علة إلا إذا كان مشهوداً بها له ؟ هو سبحانه يقول : { ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ … } [ النساء : 1 ] كأن خلقة ربنا لنا مشهود بها ، وإلا لو كان مشكوكاً فيها لقلنا له : إنك لم تخلقنا - ولله المثل الأعلى . أنت تسمع مَنْ يقول لك : أحسن مع فلان الذي صنع لك كذا وكذا ، فأنت مقر بأنه صنع أم لا ؟ فإذا أقررت بأنه صنع ما صنع فأنت تستجيب لمَنْ يقول لك مثل ذلك الكلام . إذن فقول الله : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ … } [ النساء : 1 ] فكأن خلق الله للناس ليس محل جدال ولا شك من أحد ، فأراد - سبحانه - أن يجذبنا إليه ويأخذنا إلى جنابه بالشيء الذي نؤمن به جميعاً وهو أنه - سبحانه - خلقنا إلى الشيء الذي يريده وهو أن نتلقى من الله ما يقينا من صفات جلاله ، وجاء سبحانه بكلمة " رب " ولم يقل : " اتقوا الله " لأن مفهوم الرب هو الذي خلق من عدم وأمد مَنْ عُدْم ، وتعهد وهو المربي ويبلغ بالإنسان مرتبة الكمال الذي يراد منه وهو الذي خلق كل الكون فأحسن الخلق والصنع ، ولذلك يقول الحق : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } [ العنكبوت : 61 ] . إذن فقضية الخلق قضية مستقرة . وما دامت قضية مستقرة فمعناها : ما دمتم آمنتم بأني خالقكم فلي قدرة إذن ، هذه واحدة ، وربيتكم إذن فلي حكمة ، وإله له قدرة وله حكمة ، إما أن نخاف من قدرته فنرهبه وإما أن نشكر حكمته فنقر به ، { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ … } [ النساء : 1 ] . لو لم يقل الحق : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا … } [ النساء : 1 ] لما كملت ، لماذا ؟ لأنه سيقول في آيات آخرى عن الإيجاد : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون } [ الذاريات : 49 ] . إذن فخلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها هنا ، والناس تريد أن تدخل فى متاهة . هل خلق منها المقصود به خلق حواء من ضلع آدم أى من نفس آدم ؟ أناس قالوا ذلك ، وأناس قالوا : لا ، { مِنْهَا … } [ النساء : 1 ] تعني من جنسها ، ودللوا على ذلك قائلين : حين يقول الله : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ … } [ التوبة : 128 ] . أأخذ الله محمداً صلى الله عليه وسلم من نفوسنا وكونه ؟ لا ، إنما هو رسول من جنسنا البشري ، وكأنه سبحانه قد أشار إلى دليل لأن خلْق حواء قد انطمست المعالم عنه ، ولأنه أعطانا بيان خلق آدم وتسويته من طين ومراحل خلقه إلى أن صار إنساناً ، ولذلك يجوز أن يكون قد جعل خلق آدم هو الصورة لخلق الجنس الأول ، وبعد ذلك تكون حواء مثله ، فيكون قوله سبحانه : { خَلَقَ مِنْهَا … } [ النساء : 1 ] أي من جنسها ، خلقها من طين ثم صورها إلخ ولكن لم يعد علينا التجربة في حواء كما قالها فى آدم ، أو المراد من قوله : " منها " أي من الضلع ، وهذا شيء لم نشهد أوله ، والشيء الذي لم يشهده الإنسان فالحجة فيه تكون مِمن شهده ، وسبحانه أراد أن يرحمنا من متاهات الظنون في هذه المسألة ، مسألة كيف خُلقنا ، وكيف جئنا ؟ إن كيفية خلقك ليس لك شأن بها ، فالذي خلقك هو الذي يقول لك فاسمع كلامه لأن هذه مسألة لا تتعلق بعلم تجريبي ولذلك عندما جاء " دارون " وأراد أن يتكبر ويتكلم ، جاءت النظرية الحديثة لتهدم كلامه ، قالت النظرية الحديثة لدارون : إن الأمور التي أثرت في القرد الأول ليكون إنساناً ، لماذا لم تؤثر في بقية القرود ليكونوا أناساً وينعدم جنس القرود ؟ ! وهذا سؤال لا يجيب عليه دارون لذلك نقول : هذا أمر لم نشهده فيجب أن نستمع ممن فعل ، والحق سبحانه يقول : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [ الكهف : 51 ] . وما دام لم يشهدهم ، فهل يستطيع أحد منهم أن يأتي بعلم فيها ؟ إن أحداً لا يأتي بعلم فيها ، وبعد ذلك يرد على من يجيء بادعاء علم فيقول : { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [ الكهف : 51 ] معنى مضلين أنهم سيضلونكم في الخلق . كأن الله أعطانا مناعة في الأقوال الزائفة التي يمكن أن تنشأ من هذا عندما قال : { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [ الكهف : 51 ] ، فقد أوضح لنا طبيعة مَنْ يضللون في أصل الخلق وفي كيفية الخلق ، فهم لم يكونوا مع الله ليعاونوه ساعة الخلق حتى يخبروا البشر بكيفية الخلق . فإن أردتم أن تعرفوا فاعلموا أنه سبحانه الذي يقول كيف خلقتم وعلى أي صورة كنتم ، ولكن من يقول كذا وكذا ، هم المضللون ، و " المضللون " هم الذين يلفتونكم عن الحق إلى الباطل . { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ … } [ النساء : 1 ] ولماذا لم يقل خلقكم من زوجين وانتهى ؟ لأنه عندما يُردّ الشيء إلى اثنين قد يكون لواحد من الاثنين هوى ، وإنما هذه ردت إلى واحدة فقط ، فيجب ألا تكون لكم أهواء متنازعة ، لأنكم مردودون إلى نفس واحدة ، أما عن نظرية " دارون " وما قاله من كلام فقد قيض الله لقضية الدين وخاصة قضية الإسلام علماء من غير المسلمين اهتدوا إلى دليل يوافق القرآن ، فقام العالم الفرنسي " مونيه " عندما أراد أن يرد على الخرافات التي يقولونها من أن أصل الإنسان كذا وكذا ، وقال : أنا أعجب ممن يفكرون هذا التفكير ، هل توجد المصادفة ما نسميه " ذكراً " ثم توجد المصادفة شخصاً نسميه " أنثى " ويكون من جنسه لكنه مختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معاً جاءا بذكر كالأول أو بأنثى كالثاني ؟ كيف تفعل المصادفة هذه العملية ؟ سنسلم أن المصادفة خلقت آدم ، فهل المصادفة أيضاً خلقت له واحدة من جنسه . ولكنها تختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معاً ينشأ بينهما سيال عاطفي جارف وهو أعنف الغرائز ، ثم ينشأ منهما تلقيح يُنشىء ذكراً كالأول أو ينشىء أنثى كالثاني ؟ أي مصادفة هذه ؟ هذه المصادفة تكون عاقلة وحكيمة ، سموها مصادفة ونحن نسميها الله . لقد ظن " مونيه " - هداه الله إلى الإسلام وغفر له - أنه جاء بالدليل الذي يرد به على دارون ، نقول له : إن القرآن قد مس هذه المسألة حين قال : { ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا … } [ النساء : 1 ] ، وهذه هي العظمة إنه خلق الرجل وخلق الأنثى وهي من جنسه ، ولكنها تختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معاً أنشأ الله منهما رجالاً ونساءً . إذن فهو عملية مقصودة ، وعناية وغاية وحكمة ، إذن فقول الله سبحانه وتعالى : { ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا … } [ النساء : 1 ] هذه جاءت بالدليل الذي هُدي إليه العالم الفرنسي " مونيه " أخيراً . { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً … } [ النساء : 1 ] وانظروا عظمة الأسلوب في قوله { وَبَثَّ … } [ النساء : 1 ] أي " نشر " وسنقف عند كلمة " نشر " لأن الخلق يجب أن ينتشروا في الأرض ، كي يأخذوا جميعاً من خيرات الله في الأرض جميعاً . و " النشر " معناه تفريق المنشور في الحيز ، فهناك شيء مطوي وشيء آخر منشور ، والشيء المطوي فيه تجمع ، والشيء المنشور فيه تفريق وتوزيع ، إذن فحيز الشيء المتجمع ضيق ، وحيز الشيء المبثوث واسع ، معنى هذا أن الله سبحانه وتعالى حينما يقول { وَبَثَّ مِنْهُمَا … } [ النساء : 1 ] أي من آدم وحواء { رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً … } [ النساء : 1 ] واكتفى بأن يقول " نساء " ولم يقل : كثيرات لماذا ؟ لأن المفروض في كل ذكورة أن تكون أقل في العدد من الأنوثة . وأنت إذا نظرت مثلاً في حقل فيه نخل ، تجد كم ذكراً من النخيل ، وكم أنثى ؟ ستجد ذكراً أو اثنين . إذن القلة في الذكورة مقصودة لأن الذكر مخصب ويستطيع الذكر أن يخصب آلافاً ، فإذا قال الله : { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً … } [ النساء : 1 ] فالذكورة هي العنصر الذي يفترض أن يكون أقل كثيراً ، فماذا عن العنصر الثاني وهو الأنوثة ؟ لابد أن يكون أكثر ، والقرآن يأتي لينبهك إلى المعطيات في الألفاظ لأن المتكلم هو الله ، ولكن إذا نظرت لقوله : { وَبَثَّ مِنْهُمَا … } [ النساء : 1 ] أي من آدم وحواء وهما اثنان { رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً … } [ النساء : 1 ] فتكون جَمْعاً وهذا ليدلك على أن المتكاثر يبدأ بقلة ثم ينتهي بكثرة . ونريد أن نفهم هذه كي نأخذ منها الدليل الإحصائي على وجود الخالق ، فهو { بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً … } [ النساء : 1 ] والجمع البشري الذي ظهر من الاثنين سيبث منه أكثر ، وبعد ذلك يبث من المبثوث الثاني مبثوثاً ثالثاً ، وكلما امتددنا في البث تنشأ كثرة ، وعندما تنظر لأي بلد من البلاد تجد تعداده منذ قرن مضى أقل بكثير جداً من تعداده الآن ، مثال ذلك كان تعداد مصر منذ قرن لا يتعدى خمسة ملايين ، ومن قرنين كان أقل عدداً ، ومن عشرة قرون كان أقل ، ومن عشرين قرناً كان أقل ، إذن فكلما امتد بك المستقبل بالتعداد يزيد ، لأنه سبحانه يبث من الذكورة والأنوثة رجالاً كثيراً ونساء وسيبث منهم أيضاً عدداً أكبر . إذن فكلما تقدم الزمن تحدث زيادة في السكان ، ونحن نرى ذلك في الأسرة الواحدة ، إن الأسرة الواحدة مكونة عادة من أب وأم ، وبعد ذلك يمكن أن نرى منهما أبناء وأحفاداً وعندما يطيل الله في عمر أحد الوالدين يرى الأحفاد وقد يرى أحفاد الأحفاد . إذن كلما تقدم الزمن بالمتكاثر من اثنين يزداد وكلما رجعت إلى الماضي يقل فالذين كانوا مليوناً من قرن كانوا نصف مليون من قرنين ، وسلسلها حتى يكونوا عشرة فقط ، والعشرة كانوا أربعة ، والأربعة كانوا اثنين والإثنان هما آدم وحواء . فعندما يقول الحق : إنه خلق آدم وحواء ، وتحاول أنت تسلسل العالم كله سترجعه لهما ، وما دام التكاثر ينشأ من الاثنين ، فمن أين جاءا ؟ الحق سبحانه يوضح لنا ذلك بقوله : { إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ … } [ الحجرات : 13 ] وهو بذلك يريحنا من علم الإحصاء . وكان من الضروري أن تأتي هذه الآية كي تحل لنا اللغز في الإحصاء ، وكلما أتى الزمن المستقبل كثر العالم وكلما ذهبنا إلى الماضي قل التعداد إلى أن يصير وينتهي إلى اثنين ، وإياك أن تقول إلى واحد ، لأن واحداً لا يأتي منه تكاثر ، فالتكاثر يأتي من اثنين ومن أين جاء الاثنان ؟ لابد أن أحداً خلقهما ، وهو قادر على هذا ، ويعلمنا الله ذلك فيقول : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } [ النساء : 1 ] ونأخذ من " بث " " الانتشار " ولو لم يقل الله هذا لكانت العقول الحديثة تتوه وتقع في حيرة وتقول : نسلسل الخلق حتى يصيروا اثنين ، والإثنان هذان كيف جاءا ؟ - إذن لابد أن نؤمن بأن أحداً قد أوجدهما من غير شيء . { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً … } [ النساء : 1 ] لأن النشر في الأرض يجب أن يكون خاصاً بالرجل ، فالحق يقول : { فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ … } [ الجمعة : 10 ] . والحق يقول : { فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِه … } [ الملك : 15 ] . والأنثى تجلس في بيتها تديره لتكون سكناً يسكن إليها ، والرجل هو المتحرك في هذا الكون ، وهي بذلك تؤدي مهمتها . وبعدما قال : { ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ … } [ النساء : 1 ] يقول : { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ … } [ النساء : 1 ] لقد قدم الدليل أولاً على أنه إله قادر ، وخلقكم من عدم وأمدكم وسخر العالم لخدمتكم ، وقدم دليل البث في الكون المنشور الذي يوضح أنه إله ، فلا بد أن تتلقوا تعليماته ، ويكون معبوداً منكم ، أي مطاعاً ، والطاعة تتطلب منهجاً : افعل ولا تفعل ، وأنزل الحق القرآن كمنهج خاتم ، ويقول : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ … } [ النساء : 1 ] . انظر إلى " القفشة " ، للخلق الجاحد ، إنه - سبحانه - بعد أن أخذهم بما يتعاملون ويتراحمون ويتعاطفون به أوضح لهم : أنتم مع أنكم كنتم على فترة من الرسل إلا أن فطرتكم التي تتغافلون عنها تعترف بالله كخالق لكم . وأنت إذا أردت إنفاذ أمر من الأمور ، وتريد أن تؤثر على مَنْ تطلب منه أمراً ، تقول : سألتك بالله أن تفعل ذلك ، لقد أخذ منهم الدليل ، فكونك تقول : سألتك بالله أن تفعل ذلك فلا بد أنك سألته بمعظَّم ، إذن فتعظيم الله أمر فطري في البشر ، والمطموس هو المنهج الذي يقول : افعل ولا تفعل . والإنسان من هؤلاء الجاحدين عندما يسهو ، ويطلب حاجة تهمه من آخر ، فهو يقول له : سألتك بالله أن تفعل كذا . ومادام قد قال : سألتك بالله فكأن هناك قضية فطرية مشتركة هي أن الله هو الحق ، وأنه هو الذي يُسأل به ، وما دام قد سئل بالله فلن يخيِّب رجاء مَنْ سأله . إنه في الأمور التي تريدون بها تحقيق مسائلكم تسألون بالله وتسألون أيضاً بالأرحام وتقولون : بحق الرحم الذي بيني وبينك ، أنا من أهلك ، وأنا قريبك وأُمُّنا واحدة ، أرجوك أن تحقق لي هذا الأمر . ولماذا جاءت " الأرحام " هنا ؟ لأن الناس حين يتساءلون بالأرحام فهم يجعلون المسئولية من الفرد على الفرد طافية في الفكر ، فما دمت أنا وأنت من رحم واحد ، فيجب أن تقضي لي هذا الشيء . إذن فمرة تسألون بالله الذي خلق ، ومرة تسألون بالأرحام لأن الرحم هو السبب المباشر في الوجود المادي ، ومثال ذلك قول الحق : { وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً … } [ النساء : 36 ] . لقد جاء لنا بالوالدين اللذين هما السبب في إيجادنا ، والله يريد من كل منا أن يبر والديه ، ولكن قبل ذلك لابد أن ينظر إلى الذي أوجدهما ، وأن يُصعد الأمر قليلا ليَعرف أن الذي أوجدهما هو الله سبحانه . ويختم الحق الآية بقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [ النساء : 1 ] لأن كلمة { ٱتَّقُواْ … } [ النساء : 1 ] تعني اجعل بينك وبين غضب ربك وقاية بإنفاذ أوامر الطاعة ، واجتناب ما نهى الله عنه { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [ النساء : 1 ] ، والرقيب من " رقب " إذا نظرت ويقال : " مرقب " ، ونجد مثل هذا المرقب في المنطقة التي تحتاج إلى حراسة ، حيث يوجد " كشك " مبني فوق السور ليجلس فيه الحارس كي يراقب . ومكان الحراسة يكون أعلى دائماً من المنطقة المحروسة ، وكلمة " رقيب " تعني ناظراً عن قصد أن ينظر ، ويقولون : فلان يراقب فلاناً أي ينظره ، صحيح أن هناك من يراه ذاهباً وآتياً من غير قصد منهم أن يروه ، لكن إن كان مراقباً ، فمعنى ذلك أن هناك من يرصده وسبحانه يقول : { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [ النساء : 1 ] فليس الله بصيراً فقط ولكنه رقيب أيضاً - ولله المثل الأعلى . نحن نجد الإنسان قد يبصر مالا غاية له في إبصاره ، فهو يمر على كثير من الأشياء فيبصرها ، لكنه لا يرقب إلا مَنْ كان في باله . والحق سبحانه رقيب علينا جميعاً كما في قوله : { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } [ الفجر : 14 ] . وبعد أن تكلم سبحانه عن خلقنا أباً وأماً وأنه بث منهما رجالاً كثيراً ونساء ، أراد أن يحمي هذه المسألة وأن يحمي المبثوث . والمبثوث قسمان : قسم اكتملت له القوة وأصبحت له صلاحية في أن يحقق أموره النفعية بذاته ، وقسم ضعيف ليست له صلاحية في أن يقوم بأمر ذاته ، ولأنه سبحانه يريد تنظيم المجتمع لذلك لابد أن ينظر القادرون في المجتمع إلى القسم الضعيف في المجتمع ، ومن القسم الضعيف الذي يتكلم الله عنه هنا ؟ إنهم اليتامى ، لماذا ؟ لأن الحق سبحانه حينما خلقنا من ذكر وأنثى ، آدم وحواء ، جعل لنا أطواراً طفولية ، فالأب يكدح والأم تحضن ، ويربيان الإنسان التربية التي تنبع من الحنان الذاتي ونعرف أن الحنان الذاتي والعاطفة يوجدان في قلب الأبوين على مقدار حاجة الابن إليهما ، الصغير عادة يأخذ من حنان الأب والأم أكثر من الكبير ، وهذه عدالة في التوزيع ، لأنك إذا نظرت إلى الولد الصغير والولد الكبير والولد الأكبر ، تجد الأكبر أحظهم زمناً مع أبيه وأمه والصغير أقلهم زمناً ، فيريد الحق أن يعوض الصغير فيعطي الأب والأم شحنة زائدة من العاطفة تجاهه ، وأيضاً فإن الكبير قد يستغني والصغير ما زال في حاجة ، ولذلك قال سبحانه في أخوة يوسف : { إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ … } [ يوسف : 8 ] . أي أنهم أقوياء وظنوا أنه يجب على أبيهم أن يحب الأقوياء . وهذا الظن دليل على أن الأب كان يعلم أنهم عصبة لذلك كان قلبه مغ غير العصبة ، وهذا هو الأمر الطبيعي ، فهم جاءوا بالدليل الذي هو ضدهم . إذن فحين يوجد الناشىء الذي يحتاج إلى أن يُربَّى التربية التي يعين عليها الحنان والعطف ، فلا بد من أن نأتي لليتيم الذي فقد مصدر الحنان الأساسي ونقنن له ، ويأتي الحق سبحانه وتعالى ليوزع المجتمع الإنساني قطاعات ، ويحمل كل واحد القطاع المباشر له ، فإذا حمل كل واحد منا القطاع المباشر له تتداخل العنايات في القطاعات ، هذا سيذهب لأبيه وأمه ولأولاد أخيه ، وهذا كذلك ، فتتجمع الدوائر . وبعد ذلك يعيش المجتمع كله في تكافل ، وهو سبحانه يريد أن يجعل وسائل الحنان ذاتية في كل نفس ، وما دام اليتيم يقيم معنا كفرد فلا بد من العناية به . إن اليتيم فرد فقد العائل له ولذلك يقولون : " درة يتيمة " أي وحيدة فريدة ، وهكذا اليتيم وحيد فريد ، إلا أنهم جاءوا في الإنسان وفي الأنعام وفي الطير وقالوا : اليتيم في الإنسان مَنْ فقد أباه ، واليتيم في الأنعام مَنْ فقد أمه ، لماذا ؟ لأن الأنعام طلوقة تلقح الذكور فيه الإناث وتنتهي . والأم هي التي تربي وترضع فإذا جاء أحد آخر يمسها تنفر منه . أمـا اليتيم في الطير فمن فقدهما معاً . فالطير عادة الزوج منها يألف الآخر ولذلك يتخذان عشا ويتناوبان العناية بالبيض ويعملان معاً ففيه حياة أسرية ، والحق سبحانه وتعالى جاء في اليتيم الذي هو مظهر الضعف في الأسوة الإنسانية وأراد أن يقنن له فقال : { وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ … } .